شهداؤنا الأبطال: الشهيد الخلوق التوّاق إلى الجنان المولوي غلام الله (رحمه الله)

    لو استعرضنا سير وتراجم الشهداء، لوجدنا أن كاتب كل سيرة يذعن أنه لم ير في حياته مثل الشهيد الذي يكتب عنه، وأنه كان يتمتع بأسمى الصفات وأحسن الأخلاق، والحقيقة أن ذلك الكاتب لا يبالغ وهو صادق في كلامه؛ لأن الشهداء هم الصفوة بين المجاهدين الذين امتلأ كتاب الله والأحاديث الكريمة ببيان فضائلهم ومناقبهم. […]

 

 

لو استعرضنا سير وتراجم الشهداء، لوجدنا أن كاتب كل سيرة يذعن أنه لم ير في حياته مثل الشهيد الذي يكتب عنه، وأنه كان يتمتع بأسمى الصفات وأحسن الأخلاق، والحقيقة أن ذلك الكاتب لا يبالغ وهو صادق في كلامه؛ لأن الشهداء هم الصفوة بين المجاهدين الذين امتلأ كتاب الله والأحاديث الكريمة ببيان فضائلهم ومناقبهم.

 

لأننا حينما نجري دراسة وتتبّعا في أحوال عامّة المسلمين، نرى أن من كان أكثر صلاحاً وإيماناً وإخلاصاً يتّجه عادة إلى الجهاد، ويختار الله تعالى الخيرة والصفوة من المجاهدين في ميادين الجهاد للقائه.

 

لذلك، فلا غرابة أن يذعن الكاتب بأنه لم ير في حياته مثل الشهيد الذي يكتب عنه. ونريد في هذه السطور القليلة أن نمر مرورا قصيرا بسيرة أحد هؤلاء السعداء المحظوظين بلقاء ربهم، وهو الشهيد المولوي غلام الله -رحمه الله-.

 

كان الشهيد المولوي غلام الله -رحمه الله- إنساناً قليل التكلف، كريم الأخلاق، ومن يراه لأول مرة في ميدان الجهاد ما كان يظن أنه عالم حكيم وخبير بارع، وحين رأيناه ظنناه من عامة الناس.

 

تعود معرفتي بالشهيد المولوي غلام الله -رحمه الله- لأول مرة في رمضان سنة 1427هـ عندما التقينا في منطقة “تاغز”، وكنا قد ذهبنا إلى “تاغز” من “براهمجه” مع عدد من الأصدقاء ومن بينهم الشهيد أبو دجانة -رحمه الله-، لننطلق من هناك إلى خط المواجهة في جبهة “هزار جفت”، حيث كان الشهيد ينتظر الذهاب قبلنا في “تاغز”.

 

كان الشهيد المولوي غلام الله -رحمه الله- يجيد لغات أخرى مثل العربية والأوردية وغيرها، ولأجل هذا؛ كنا نظنه من منطقة أخرى، وبعد عامين اكتشفنا أنه من منطقتنا ومن القومية البلوشية. كان مشغولاً بالخدمة والطبخ مثل المجاهد العادي، لأنه كان يعلم جيداً أن طريق الشهادة يبدأ من خدمة المجاهدين، والمجاهدون الذين يخدمون أكثر سيحققون أمنيتهم ​​عاجلاً.

 

خلال الرحلة وصلنا إلى منطقة “هزار جفت”، وكان أمير منطقة “تاغز” قد طلب من أمير الابتعاث ألا يأخذ غلام الله معه لأنه كان يقوم بكل أعماله هناك، وقال: إذا ذهب المولوي غلام الله فسوف أكون في ورطة. ولكن المولوي غلام الله لم يكن على علم بذلك. وفي الصباح عندما ركبنا السيارات للذهاب إلى “هزار جفت”، كان يقف بجانب السيارات بوجه حزين للغاية، راجياً أن يأخذه أمير الابتعاث معه، لكن لم يحدث ذلك. ثم حكى لنا أصدقاء آخرون أنه عندما غادرتم، كان قد حزن حزناً شديداً لدرجة أنه لم يستطع التحدث، لكنه مع ذلك ظلّ صابراً.

 

تجدر الإشارة إلى أنها لم تكن المرة الأولى التي قدِم فيها الشهيد المولوي غلام الله إلى ميدان الجهاد، بل كان قبل ذلك قد ذهب إلى وزيرستان مع الشهيد حسين والشهيد عبد الحكيم -رحمهما الله- للتعليم والتدريب، حيث نفدت أموالهم في الطريق، ثم حصلوا بجهود الشهيد مولوي غلام الله وتواصلاته مع عائلته على مبلغ كبير من المال ونجحوا أن يصلوا إلى أهدافهم.

 

عندما كنا في “براهمجه” في ربيع سنة 1429هـ، كان معنا في الغرفة عدد من المهاجرين السلفيين الذين كانوا يختلفون بين الحين والآخر، وكان الشهيد المولوي غلام الله -رحمه الله- في مكان آخر، لكنه كان يتفقدنا، ويأتي إلينا وكان يجيبهم بكل احترام من خلال بيان الآيات والأحاديث، ويجيب عن الشبهات، ويثبت أن المذهب الحنفي هو أحد المذاهب الأربعة المشروعة. وسمعت من الشيخ أبي عبد الملك الكويتي يؤكد ويقول: هذا الرجل عنده علم.

 

وكان الشهيد المولوي غلام الله -رحمه الله- قد كتب اسمه في قائمة الفدائيين، ولكن بما أن الحاجة لمواهبه كانت ماسّة؛ فقد طلب منه أمراء المنطقة أن يبقى في ورشة الإلكترونيات حتى يتمكن من خدمة الإسلام أكثر، ويضرّ أعداء الإسلام أكثر من قبل.

 

في فترة قصيرة جدًا تقدّم كثيرًا في مجال الإلكترونيات وصناعة أجهزة التحكّم عن بعد، وقام بترجمة دروس الأساتذة بشكل جيّد لمن لم يكونوا يفهمون لغتهم، وكان يدرّسهم بلغتهم.

 

كنت لفترة زميل الشهيد المولوي غلام الله -رحمه الله- في الغرفة، وكانت طائرات التجسس الأمريكية في تلك الأيام تحلق فوق مدينة “براهمجه”، والتي كانت تنبئ عن عملية كثيفة.

 

كان العدو المحتل خائفًا جدًا من اقتحام مدينة “براهمجه” عن طريق البرّ، لكنه أصرّ على شن هجوم واسع النطاق على أرض الشهداء هذه، لذلك شاركت طائرات التجسّس لمدة شهرين متتاليين في التصوير ورسم الخرائط فوق “براهمجه”.

 

إلى أن ارتفعت في 28 جمادى الأولى 1429هـ، بالإضافة إلى أصوات طائرات التجسس، أصوات القاذفات والمروحيات، وكانت تتزايد شيئاً فشيئاً.

 

كان المجاهدون قد استعدوا بأقصى ما في وسعهم، وقاموا بزرع الألغام في الأماكن التي من المحتمل أن يأتي فيها مشاة أو دبابات العدو، كما قاموا بتركيب صواريخ BM التي يتم التحكم فيها عن بعد في حالة وصول العدو على الجبال المحيطة، وكان في غرفتنا في تلك الليلة معي الأستاذ أحمد برادر، والأستاذ صلاح الدين، والأستاذ عمر، والمولوي غلام الله -رحمه الله-، والأستاذ رفيق.

 

أبلغ أمراء المنطقة عبر اللاسلكي غرفتنا بأن العدو يخطط للاقتحام من المنطقة الفلانية فاستهدفوه، ولهذا السبب، اقترب الأستاذ صلاح الدين والأستاذ رفيق من الغابة واحتميا بجبل.

 

عندما صلينا العشاء، أحضر الشهيد المولوي غلام الله -رحمه الله- بطّانية من الغرفة وبسطها في منتصف الفِناء، وكان منتعشًا وفرحا للغاية، وكان يؤخر صلاة الوتر لوقت التهجد عادة، ولم يُصلِّ الوتر في تلك الليلة أيضًا، وكانت الساعة حوالي 10-11 ليلاً عندما كنا جالسين أنا وهو، فنهض فجأة وأدى وتره ثلاث ركعات على الرمل، ثم دعا، ثم التفت إلي وهو يضغط على يديه وقال: ما أجمل أن نُسقط الليلة طائرة من طائرات العدو، إذ نادى أثناء ذلك السيّد أحمد، وقال: تعالوا إلى البيت، فعندما ذهبنا، رأينا أنه يبحث عن بي إم بمصباحة اليدوي، قال: لقد أبلغنا صلاح الدين ورفيق أن جهاز التحكم لا يعمل للأسف، وعلى الأغلب أرسل العدو موجات ترددية عطلت أجهزة التحكم عن بعد، لذا بما أن جهاز التحكم عن بعد لا يعمل، يتعيّن علينا توصيل سلك بسلك وتشغيله مباشرة من خلال البطارية.

 

وتابع: لم يعد بإمكان هذين الإثنين العودة والتحرك من مكانهما، يجب أن نأخذ صاروخًا من هنا ونستهدف العدو. وكان هناك صاروخان، فقاموا بتوصيل أحدهما بالسلك، وربط اللواصق عليه، ولكن الآخر لم يتم إصلاحه وكانت فيه مشكلة، فأمر المولوي غلام الله أن يحمله على كتفه، فخرج من الغرفة، وكان السيّد أحمد في المقدمة والمولوي غلام الله يسير خلفه، وتبعتهم أيضًا، ورأيت الأستاذ أحمد توقف وطلب منّي العودة، فتحركوا مرة أخرى، وتحركت خلفهم مرة أخرى، وقال لي هذه المرة بنبرة أكثر حدة: أين؟ ارجع، نحن الاثنان كافيان.

 

كان الرفاق الآخرون قد ذهبوا إلى مكان آمن مع الضيوف، وغادروا الغرفة، فكنت وحيدا هناك، وكنت متخوفا من الجلوس في منتصف الفِناء حيث بسط المولوي غلام الله البطانية، فاستندت على الحائط المجاور للمنزل وغطيت سلاحي بردائي.

 

وصل الشهيد المولوي غلام الله والشهيد أستاذ أحمد -رحمهما الله- إلى الغابة سيرًا على الأقدام، وأطلقوا صواريخهم من الاتجاه الذي كان العدو قادمًا إليه، ولكن بعد ذلك بدأ قصف مكثف جدًا، واستهدف المولوي غلام وأحمد أوّلا، ثم استهدف غرفة كانت تبعد عنا بضع مئات من الأمتار، وتبيّن فيما بعد أن هؤلاء الأصدقاء كانوا نشيطين للغاية.

 

على المجاهدين أن يجتنبوا التحرك مطلقا أثناء قصف العدو، لأنهم أثناء القصف يستهدفون أي جسم متحرك، ويجب ألا يغادروا الغرفة، لأنّ كاميرات طائرات العدو ترصد حرارة جسد المجاهد، والنقطة المثيرة للاهتمام هي أن أمير تلك الغرفة كان قد جاء أخيرا، وكان قد قام بتغيير اسم اتصاله بالشهيد، وأن معظم أهل هذه الغرفة استشهدوا في تلك الليلة، وبعد ذلك أمر أمير منطقة “براهمجه” بتغيير اسم الاتصال إلى الفاتح.

 

على الجانب الآخر من المنزل الذي كنّا نقيم فيه، كان أصدقاء آخرون يقيمون، وكانوا أيضًا نشيطين جدًا، وقد تم استهدافهم أيضًا من قبل العدو، وكان هذا المنزل قريبًا جدًا منّا. في هذه اللحظة أردت الدخول إلى الغرفة، لكن تذكرت تعليم أحد الأساتذة حيث قال: لا تتحركوا أثناء القصف، لذلك لم أتحرك من مكاني.

 

للأسف استمر القصف حتى الصباح، ولم تصلني أي معلومات من أي من أصدقائي، في هذه اللحظة بالذات، غفوتُ للحظة وأنا جالس، سبحان الله! كم كانت تلك اللحظة القصيرة مريحة! ثم بدأ صوت أذان الفجر من بعيد، وقلّ صوت الطائرات شيئا فشيئا، فقمت واستقيت من البئر الماء، وملأت الإبريق بالماء وتوضأت، وصليت صلاة الفجر. بعد الصلاة رأيت بعض الأصدقاء يأتون، فاسترحت قليلاً، وعندما جاء الشهيد صلاح الدين ورفيق، سألتهم: أين أحمد برادر وغلام الله؟

 

قالوا: كلاهما استشهدا. لقد أصابت القذيفة الشهيد غلام الله، ولم تترك له أي أثر سوى قطعة من جسده، وبذلك حقق أمنيته التي طال انتظارها؛ لأنه كتب هذه القصيدة في رسالة طلاب دورة الحديث حيث يكتب كل واحد منهم قصيدة أو مقولة:

 

لست أبالي حين أقتل مسلما *** على أي جنب، كان في الله مصرعي

 

وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصال شلوٍ ممزعِ

 

 

 

عدّ أحد أصدقاء الشهيد أثناء الدراسة والجهاد -والذي لم يشأ أن يذكر اسمه- بعض صفات الشهيد الأخلاقية، فقال: من أبرز صفات الشهيد المولوي غلام الله -رحمه الله-؛ الإيثار والتضحية، حيث كان أمير غرفتنا أيام الدراسة، لكنه كان دائمًا يقوم بأعماله بنفسه، وكان يدفع النفقات من مصروفه الخاص، لقد كان شخصًا حسن الأخلاق وكريمًا سخيا، وسليم القلب، وفي نفس الوقت صادقًا، كان يجتهد كثيرًا في العبادات الشخصية، وكان شخصية ناجحة ومجتهدة في دراسته.

 

كان يتعامل مع الجميع بحسن الخلق ووجه طلق، ولا أتذكر أحداً كان له معه أدنى شجار أو نزاع، وكان جميع المجاهدين الذين معه في ميدان الجهاد يحبونه كثيرًا.

 

وتحضرني ذكرى جميلة، وهي أنه عندما جاء إلى براهمجه، تم إخباري بأنه جاء لي ضيف ويريد أن يلقاك، وعندما ذهبت إلى الوكالة، رأيت أنه المولوي غلام الله. بعد التحية والترحيب، قلت: هل تريد المضي إلى الأمام أم تريد أن تخدم معي؟

 

قال: سأبقى معك. ولأن شعبتنا كانت مرتبطة بالإلكترونيات والتحكم عن بعد، وكانت لنا علاقة كبيرة بالفدائيين، و نظرا لمعرفتي بالشهيد؛ قلت له: هناك شرط، فإن استطعت أن تعمل عليه يمكن لك البقاء معي. قال: طيب. قلت: الشرط هو أنه لا يؤذن لك بالعمليات الفدائية على الإطلاق. وكان الشرط غريبا له، فضحك. لكن بعد مرور بضعة أشهر لما رأى حماس وإيمان المجاهدين الفدائيين وأشواقهم إلى العلميات الفدائية، أصبح متحمسًا للغاية، واستعد لعملية فدائية، وكنت أذكّره بالشرط دوماً، وكان يغتمّ لما يتذكّر الشرط.

 

 

 

يجب أن أقول: إنه كان لدينا الكثير من المجاهدين الفدائيين لدرجة أننا لم نتمكن من إعدادهم وتجهيزهم جميعًا، وكانت لدينا حاجة ماسّة لأشخاص مثل الشهيد المولوي غلام الله -رحمه الله-، ولكن إخلاصه وربانيته كانا عاليين لدرجة أنه استشهد مثل المجاهدين المخلصين، ولم يبن لجثمانه مأوى في الدنيا، لأنه التحق بالواحد الأحد ذي الجلال الإكرام بجسده وروحه معا في آن واحد.