أفغانستان والأحزاب السياسية (3)

ومن العجب العجاب أن الوزارات الحكومية آنذاك وُزعت بين الأحزاب مثل توزيع اللحوم بين الناس الجائعين، فكل حزب امتلك وزارة بكاملها، ولم يكن للآخرين حقٌ فيها. ورغم ذلك، لم تكتفِ الأحزاب بهذا، بل سعى كل حزب إلى الاستئثار بالحكم وحده دون غيره. فعُقِدت اجتماعات على المستوى الداخلي والدولي لحل النزاع، ولكنها لم تعُد بأي نفع على البلاد. وقيل إن اصحاب هذه الأحزاب كانوا يحلفون في هذه الاجتماعات على ترك النزاع وعلى الاعتصام بحبل الله، ثم ما يلبثوا أن ينقضوا عهدهم وينسوا حلفهم.

 

حكم الشيوعيين أفغانستان لأكثر من عشر سنوات، ولم يألوا جهدًا في هذه المدة لارتكاب أي جريمة في حق الشعب الأفغاني؛ فقتلوا ودمّروا وأبادو وهجّروا وعاثوا في أفغانستان فسادًا ودمارًا، ليفرضوا على الشعب الأفغاني فكرتهم النتنة وعقيدتهم الفاسدة، وليزرعوا في قلوب الأفغان الفكرة الشيوعية المندثرة، وساعدهم الجيش الأحمر بعُدّته وعتاده، ودعمهم الاتحاد السوفييتي بكل ما في وسعه من مال وسلاح؛ ولذلك دخل أفغانستان مباشرة وبدأ أعماله الوحشية في حق الشعب الأفغاني، فكان الحزب الشيوعي والاتحاد السوفييتي صورتي عملة واحدة؛ إحداهما أفغاني وأخرى سوفييتي. فكان يسود الشعب الأفغاني الرعب والخوف بسبب أعمال هذه الأحزاب وداعميها وممّا كانوا يرتكبونه في حقه يوميًا.

أظهرت الأحزاب الشيوعية من أول حكمها وجهها الحقيقي للشعب، وحقدها على أحكام الإسلام، وشناءتها للتقاليد الأفغانية العريقة، واستهزاءها بالدّين والوطن، وأصبحت أهدافها وأغراضها واضحة للشعب، وعلم کل واحد واجبه في هذا الاتجاه.

بينما الأحزاب الإسلامية التي كانت تحمل اسم الإسلام، وكانت تقاوم ضدّ الروس وعملائهم؛ لم يكن الشعب يعرفها، ولم يعرف أصحابها وأهدافها وغاياتها. والظاهر أنّ هذه الأحزاب كانت سياسية وأفغانية، وتقاوم ضد العدوّ المحتل المعتدي؛ وهذا هو الذي جعل الأفغان عامّتهم وخاصتهم يخوضون ضمن هذه الأحزاب في المعركة ضد الاتحاد السوفييتي، وهم الذين لو لم يكونوا لم يكن الانتصار، ولم ينهار الاتحاد السوفييتي والجيش الأحمر.

انهزم الاتحاد السوفييتي، وانهزم الحزب العميل له وبقيت ذخائر هائلة من الأسلحة والمعدات والأموال، فبادرت الأحزاب إلى امتلاك هذه الذخائر، وامتلكتها بالفعل؛ وخلق هذا الأمر في رؤساء الأحزاب نوعًا من الغطرسة والكبر، وجرّهم إلى ارتكاب الجرائم وخلق الكوارث، ذلك أن كل حزب بما امتلك من القوة والسلاح كان يتطلع إلى الحكم، وجعل رؤساء هذه الأحزاب ينسون ماضيهم، ويهملون ما جاء عليهم وعلى الشعب من مصائب ومشاكل.

 

مصير الحكومة المنشودة بعد هزيمة الجيش الأحمر

 

بعد انهيار الحكومة الشيوعية وإلحاق الهزيمة بأكبر قوة عسكرية وفكرية في العالم، احتفل الشعب الأفغاني بهذا النصر المبين، واحتفل به المسلمون في أنحاء العالم، وجعلوا يتأهبون لإقامة نظام إسلامي شامل قوي أقيم على تضحيات أكثر من مليون شهيد، وكل شيء كان جاهزًا لإقامة النظام المنشود من الاعتراف الدولي والقبول الشعبي والاحترام والتقدير، لكن ذابت آمال الشعب في مدة يسيرة، ذوبان الثلوج تحت أشعة الشمس، وفوجئ الشعب بصراع جديد بين القادة الذين علّق عليهم آماله ومستقبل بلاده، صراع العروش وصراع السلطة، وأصبح الإخوة المحاربون في معسكر واحد، ضد عدوّ واحد بالأمس، متحاربين الیوم، يطارد بعضهم البعض في الشوارع والأزقة، كأنهم تعاقدوا على الاقتتال والتناحر، فأكملوا بسيوفهم ما بدأه الاتحاد السوفييتي، فقتلوا ودمّروا وعاثوا في وطنهم فسادًا ودمارًا.

 

وهذا سؤال ربما يزعجني: كيف تمكّنوا من ذلك وكيف سمحت لهم مشاعرهم؟!

 

وكيف سمحتْ لهم مشاعرهم بأن يحثوا التراب على ما شيّدوه من المآثر والمفاخر في ميدان النضال والصمود التي ذهبت بهم إلى الآفاق فخرًا واعتزازًا؟!

هل يمكن أن تُنسى الأحداث المریرة التي حدثت على أرض الأفغان على يد أبنائها الذين حققوا النصر المبين، وأشير إليهم بالبنان على المستوى الدولي، والذين أشاد الناس بهم وأثنوا عليهم؟

تفرّقت الأحزاب التي حملت اسم الإسلام ولا أثر للإسلام فيها؛ فاقتتلت وتناحرت، وتماروا للوصول إلى الحكم، فدمروا كل ما بنوه من المفاخر، ولوثوا قائمة أعمالهم بنقطة سوداء لن تزول أبدا. لقد سجلت الحرب الأهلية وصمة عار في جبينهم. وخلال هذه الحرب، عانت مدن: كابول، وهرات، ومزار شريف، وقندهار، من أكبر قدر من العنف والخسائر مقارنة بالمدن الأخرى، وقتل الآلاف من الرجال والنساء والأطفال.

وقد استغلوا نعرات القوميات والعرقيات المختلفة للأهداف الشخصية. وجعل أصحاب الأحزاب من أتباعهم سلماً نحو أهدافهم المادية؛ فلا يهمهم لا الإنسانية ولا القومية ولا اللسان ولا البلاد، كما دلّت على ذلك قراءة الأحداث، واستقراء الواقع. فلو كانوا حزبًا واحدًا، إخوانا متحابين، يقاتلون لله، تاركين التحزب؛أفغانستاناً للجميع، ولكانت متقدمة متطورة في كافة المجالات.

ومن العجب العجاب أن الوزارات الحكومية آنذاك وُزعت بين الأحزاب مثل توزيع اللحوم بين الناس الجائعين، فكل حزب امتلك وزارة بكاملها، ولم يكن للآخرين حقٌ فيها. ورغم ذلك، لم تكتفِ الأحزاب بهذا، بل سعى كل حزب إلى الاستئثار بالحكم وحده دون غيره. فعُقِدت اجتماعات على المستوى الداخلي والدولي لحل النزاع، ولكنها لم تعُد بأي نفع على البلاد. وقيل إن اصحاب هذه الأحزاب كانوا يحلفون في هذه الاجتماعات على ترك النزاع وعلى الاعتصام بحبل الله، ثم ما يلبثوا أن ينقضوا عهدهم وينسوا حلفهم.

وعلى كل حال، الأحزاب ورؤساؤها أظهروا وجوههم الحقيقية بعد الانتصار على الاحتلال السوفييتي، وكأنّ رؤساء هذه الأحزاب كانوا ينتظرون خروج الجيش الأحمر ويتطلعون إلى خلو البلاد من الحكم! فأصبح الوجه الجميل لهذا الانتصار، والذي استمر مدة يسيرة جداً وأياماً معدودات؛ مسودّا قاتمًا، وذهبت تضحيات الشعب الجبارة هباءً منثوراً. وسارع كل من نشط تحت أمره حزبٌ إلى أن يصل إلى رأس الحكم وإلى الاستحواذ على الوزارات المهمة المؤثرة في مصير مستقبل البلاد.

وممّا لابد من الإشارة إليه هو أن كثيرًا من المجاهدين المخلصين، بعد أن تم تطهير البلاد من الاحتلال السوفييتي، رجعوا إلى وظائفهم اليومية ظناً منهم بأن القادة العظام الذين لهم يد في السياسة، سيقيمون النظام الإسلامي المنشود، ويجمعون الناس على مائدة الإسلام وتحت راية التوحيد التي لأجلها قام الناس بالنضال أمام أكبر قوة عظمى في تلك الآونة، ولكن خابت آمالهم و آمال عامة الناس في مدة قليلة.

والشعب على وعي من ذلك، ويفرّق بين من كان همّه الحكم وبين المجاهدين الحقيقين، ويعطيهم حقهم في الإشادة والثناء، ويشكرهم على جهودهم وعلى تضحياتهم في تلك الأونة.

والأحداث الواقعة في هذه الحقبة التاريخية أظهرت للجميع بأن التحزب وتشكيل الأحزاب السياسية لا يغني عن حقيقة أفغانستان شيئاً، وأن شعبها شعب واحد لا يرضى بالتحزب ولا يقبل الانتماء لغير عقيدته التي أمرته بأن يتّحد ويجمع كلمته على التوحيد، قال الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران، ١٠٢، ١٠٣]. وكأن هذه الآيات نزلت فيهم، ومع أنّ جل هؤلاء كانوا من العلماء إلا أنهم نسوا هذه الآيات وأشباهها، والتي تأمر المسلمين -عامتهم وخاصتهم- بتقوى الله وبالاعتصام بحبل الله وهو القرآن وأحكام الإسلام.

ولن ننكر أبدًا أنّ كثيرًا من الدول في العالم والمنطقة، كانت متورطة في حرب أفغانستان الأهلية، وكانت تنفخ في نار الحرب بين فترة وأخرى، وذلك بدعمها للأحزاب المتقاتلة، حيث دعمت كل دولة حزباً ورغّبته للوصول إلى الحكم. ولكن هذا الأمر لم يكن عذراً يتعذّر به أصحاب الأحزاب فيما خلقوا من جرائم ودمار، فهم كانوا أفغاناً مسلمين عالمين بأحكام وأوامر دينهم، يستطيعون الوقوف ضد أي تآمر وضد أي محاولة؛ بالوحدة والتضامن والتكاتف، كما فعلوا ذلك ضد القوات السوفييتية. فالمشكلات التي جرّتها الأحزاب على أفغانستان كلها كانت عن علم، ولم تكن عشوائية أو مخططة من هذه الدولة أو تلك، كما يتحجّج به البعض لتطهير ساحة الأحزاب وأصحابها.

وحسب موقف المنصفين، كان السبب الأبرز في الحرب الأهلية وما تلاها من الكوارث؛ هو التحزب والانتماء إلى حزب دون حزب وما نشأ منه من بروز التعصب القومي واللساني بين منسوبي هذه الأحزاب؛ ما جعلهم يرتكبون جرائم مختلفة بكل سهولة في حق مواطنيهم ويخلقون كوارث لا تُنسى ولا تُغفر.

فهذه قصة الأحزاب السياسية الإسلامية في أفغانستان، زمن الاحتلال السوفييتي وبعده، والتي كانت تحمل اسم الإسلام، ولم تأتِ بأي نفع للإسلام ولا لأفغانستان. وثبت أن البُعد عن أصل الإسلام الذي يجمع الأفغان ويوحدهم هو الذي قاد البلاد إلى تلك المشكلات والمصائب. فحُق لنا أن نكون متيقظين واعين متمسكين بحبل الرحمن؛ الإسلام وأحكامه النيرة.