اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
بقلم: د. طارق الزمر لم تكن أفغانستان يومًا دولة عادية في الجغرافيا السياسية، بل كانت عبر العصور أرضًا عنيدة، استعصت على كل قوة حاولت أن تطوّعها أو تُخضعها. في كل مرة تظن فيها إمبراطورية أنها بلغت ذروة القوة، تنظر إلى هذه الرقعة الجبلية بشيء من الغرور، وتسعى إلى غزوها كمن يدخل امتحانًا نهائيًا في […]
بقلم: د. طارق الزمر
لم تكن أفغانستان يومًا دولة عادية في الجغرافيا السياسية، بل كانت عبر العصور أرضًا عنيدة، استعصت على كل قوة حاولت أن تطوّعها أو تُخضعها. في كل مرة تظن فيها إمبراطورية أنها بلغت ذروة القوة، تنظر إلى هذه الرقعة الجبلية بشيء من الغرور، وتسعى إلى غزوها كمن يدخل امتحانًا نهائيًا في إثبات الهيمنة. لكنها تخرج، في النهاية، منهكة، خائبة، مدحورة، تاركة خلفها بقايا مشروع مدفون تحت صخور هندوكوش.
في عام 2021، سقطت كابول من جديد، لكن هذه المرة لم يكن السقوط للمدينة، بل للهيبة الأمريكية نفسها. كان المشهد أكثر بلاغة من أي خطاب أو تحليل: طائرات أمريكية تنقل موظفي السفارة على عجل، وعملاء متشبثون بعجلات الطائرات هربًا بعد سقوط الحماية، وحركة طالبان تدخل العاصمة دون مقاومة تُذكر. كانت تلك لحظة تاريخية، لم تُسقط نظامًا مدعومًا من الغرب فحسب، بل أسقطت معها وهمًا كبيرًا: أن أمريكا قادرة على تشكيل العالم على صورتها، متى وأين شاءت.
الهزيمة الأمريكية لم تكن عسكرية فحسب، بل كانت حضارية ونفسية واستراتيجية. فقد جاءت بعد عقدين من الاحتلال، وبعد تريليونات أنفقت، وآلاف من الجنود قُتلوا أو جُرحوا، وبعد وعود متكررة بإحلال نموذج غربي، وبناء دولة تابعة، ومحاربة الإرهاب. لكن النتيجة جاءت كصفعة: عاد كل شيء إلى ما كان عليه، وكأن الزمن دار دورة كاملة ليضع الحقيقة في مكانها. وكأن التاريخ الأفغاني نفسه انتفض ليذكّر الإمبراطورية الجديدة بما جرى لمن سبقها.
لم يكن البريطانيون أفضل حالًا حين دخلوا كابول في القرن التاسع عشر، فخرجوا منها بجثث جنودهم ممزقة على الطرقات. ولم يكن السوفييت أذكى عندما قرروا غزو أفغانستان، فخرجوا بعد عشر سنوات وهم يجرون خلفهم ذيول الخيبة، ولم يلبث أن انهار اتحادهم بأكمله. الآن جاء الدور على الولايات_المتحدة، أكثر إمبراطوريات التاريخ تسليحًا وتقنية وإعلامًا. ظنّت أنها قادرة على كسر قاعدة التاريخ، فإذا بها تكرر ذات المصير.
الشعب الأفغاني لا يملك طائرات شبح، ولا أقمارًا صناعية، ولا جيوشًا نظامية تتفاخر في العروض العسكرية. لكنه يملك ما هو أخطر: عقيدة لا تموت، وذاكرة لا تخيب، وصبرٌ كالجبال، وإيمانٌ بأن الحرية لا تُشترى ولا تُمنَح، بل تُنتزع مهما طال الزمن أو غلا الثمن. في كل بيت أفغاني، هناك رواية عن مقاومة، وحكاية عن شهيد، وأمنية مؤجلة بحياة بلا احتلال. هذه القوة الناعمة – التي لا تُقاس بالأرقام – هي التي هزمت أعظم آلة حربية عرفها العالم.
الهزيمة الأمريكية في أفغانستان لم تُضعف فقط صورة واشنطن كقوة عالمية، بل زعزعت الثقة في نموذجها، وفي قدرتها على هندسة العالم. لقد أثبتت أن القوة مهما بلغت، إذا لم تُدرك طبائع الشعوب، وثقافة الأرض، وحجم الكرامة الراسخة في النفوس، فإنها تُهزم ولو بعد حين.
في النهاية، تظل أفغانستان أكثر من مجرد بلد في خرائط الجغرافيا. إنها اختبار التاريخ لكل من يطمح أن يكون سيدًا على العالم. وفي كل مرة، يأتي الإمبراطور واثقًا، ويغادر محنيًا، تاركًا وراءه سؤالًا مفتوحًا: ما سر هذا الشعب الذي لا يُقهر؟
قد لا يملك الأفغان إجابة فلسفية على هذا السؤال، لكنهم يقدمونها كل مرة، بدمائهم، وصمودهم. يقدمونها للغزاة على عتبة التاريخ، ثم يُغلقون الأبواب، ويعودون إلى جبالهم، منتظرين القادم الجديد.
دیدگاه بسته شده است.