اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
والحقيقية أني قبل أن أدخل كابل كنت أظنها مدينة حضرية متقدمة نظراً إلى أنها أكبر مدينة في أفغانستان وتعتبر قلبها النابض في السياسة والاقتصاد والتقدم والتقنية وكانت تحكمها الحكومة السابقة بشكل كامل، وكانت مسيطرة عليها في مدة حكمها، وكانت لها شعارات وادعاءات في بنائها كعاصمة، فكان من المتوقع أن تعمل فيها أعمالاً كبيرة ذات قيمة في تحديث مدينة كابل ومدن كبيرة أخرى، ولكن باء أملي بالفشل وفوجئت بما كنت لم أظن.
بقلم: محمد صادق الرافعي
العاصمة من كل بلد هي قلبه النابض والمركز الرئيسي لاتخاذ السياسات والمواقف في عموم البلاد، ولذلك فإن تقدم وتطور العاصمة ينعكس على تطور البلاد بأسرها؛ وهي في نفس الوقت مركز للقوة والسلطة في الدولة، حتى تتمكن من بسط سلطانها على كل أجزاء الدولة، بما فيها المناطق النائية، فتحميها من أي تهديد؛ وتمثل حلقة اتصال بين الدولة والعالم الخارجي؛ ويكون موقعها عادة ملتقى طرق النقل والمواصلات في الدولة.
وكابل عاصمة الوطن الحبيب؛ أفغانستان، مدينة تُعرف بين عامة الناس بحروبها واضطراباتها، عاصمة عاشت الخراب والدمار أكثر من أي عاصمة في العالم، وواجهت التحديات المختلفة في العقود الأربعة الماضية، وتوالت عليها الحكومات والسلطات، ودارت رحا الحرب فيها مرات، وتحولت إلى ركن ضائع في متاهة هذه الاضطرابات والصراعات التي نشاهد آثارها حتى الآن، ما جعلها تخرج عن أن تكون عاصمة حديثة متطورة بين العواصم الأخرى، وبالتالي فقدت سحرها وثقافتها اللتين اشتهرت بهما وجعلاها قبلة في أفغانستان، والتي كانت -فيما مضى- مركزاً لحضارة وازدهار وضعاها بمرمى أطماع الغزاة على مرّ العصور، ولها تاريخ عريق إذ كانت توصف بـ”الجنة” الرابضة بين جبال أفغانستان.
وصف الرحّالة ابن بطوطة أهلها وصفًا دقيقًا، فقال: “إن سكانها يُسمّون بالأفغان أصحاب قوّة وبأس شديد”.
وما بين كل هذه الأحداث، فهي مدينة تراثية تنبض بتاريخ عريق وآثار شامخة، فهي من أكثر المدن تنوعًا ثقافيًا وحضاريًا، وتوجد فيها العديد من المعالم القديمة والحديثة، وقد وصفت المخطوطات هذه المدينة بالمدينة المثالية.
وتعد مدينة كابل من أهم المدن التراثية وأكثرها تأثيرا في تاريخ أفغانستان، لما تضمه من آثار تمثل مختلف العصور القديمة والإسلامية، وتعتبر مثالًا واضحًا للتنمية السريعة والحياة العصرية والحضارة.
ويرجع تاريخ كابل إلى أكثر من 3 آلاف سنة قبل الميلاد، وبالنظر لموقعها الاستراتيجي على طول الطرق التجارية، فقد عاصرت العديد من الامبراطوريات، وفي القرن الأول الميلادي أصبحت عاصمة الامبراطورية الكوشانية التي شملت منطقة شمالي الهند وآسيا الوسطى، وحكمها الأمويّون حتى سقوط دولتهم، وبعدها دخلت في ملك الدولة العباسية، وخضعت بعدها لسيطرة الغزنويين والغوريين.
وترتفع عن سطح البحر حوالي 1800 متر، وتمتد على مساحة 4462 كيلومترا مربعا، وتنطلق منها معظم الطرق الرئيسية التي تربطها ببقية أنحاء البلاد.
وتتميز اليوم بموقع استراتيجي، إذ توجد عند تقاطع الطرق المؤدية إلى أوزبكستان في الشمال عبر مزار شريف، وباكستان في الشرق عبر جلال آباد وقندهار إلى الجنوب، وكذلك تتميز عن باقي العواصم الأخرى في الدول الآسيوية بالقصور التاريخية التي تعكس تنوعها الثقافي وتاريخها القديم وأهميتها الاستراتيجية التي اكتسبتها بفعل موقعها والأدوار التي لعبتها خلال قرون.
وعلى الرغم من أن أفغانستان عامة، وكابل خاصة، تمثل لشعوب العالم صورة للصراعات والمباني المدمرة، وأنهم ينظرون إليها على أنها أرض متخلفة وفاقدة للحكم، إلا أن أفغانستان -بما فيها عاصمتها؛ كابل- أمضت معظم القرن العشرين في أمن واستقرار أكثر من العديد من البلدان النامية.
هذا (زلمي خليلزاد) الذي زار كابل في ستينات القرن الماضي، يصف رؤيته لكابل على النحو التالي:
“كان عدد سكان كابل يبلغ 500 ألف نسمة، وكانت أكبر بعشر مرات مقارنة بمدينة مزار شريف (موطني الأصلي)، وكانت مدينة متميزة ومزدهرة وخضراء نسبيًا، وكانت السيارة الكهربائية والمطار ومبانيها متعددة الطوابق علامة على ازدهارها وتطورها، وكانت مدينة دولية نسبيًا في ذلك الوقت، وكان الهنود يأتون إليها للتسوق، ويجدون في أسواقها ما يفقدونه في بلادهم، وما لم يكن غير عادي هو هروب الباكستانيين من حرارة السند الشديدة، فكانوا يأتون إلى كابل للاستمتاع بأجوائها والاستفادة من الحرية التي كانت موجودة في هذه المدينة. وملأ الأمريكيون والأوروبيون فنادق كابل، وكانت المحطة المفضلة لهم. وفي عام 1970، أقامت شركة سيتروين الفرنسية للسيارات معرضًا في كابل استقطب 1300 مشارك”.
وعلى الرغم من كل ما دار في ذهني، فحين دخلت كابل ووقع بصري عليها لأول مرة، فأول شيء تبادر إلى ذهني؛ التحديات الأخيرة، ومرت -كالفيلم الوثائقي أمام أعيني- الحروب السابقة والقصف والتخريب والمرارات التي تحملتها من أبنائها في الحرب الأهلية، وذهب بي ذهني إلى من حكم أفغانستان قبل ذلك بدءا من الحكام الذين عاصرهم آباؤنا وأجدادنا من نادر خان وظاهر شاه وداود خان مرورا بالحكام الشيوعيين حتى الحكام الخونة العملاء الذين دام حكمهم عشرون عاما، حيث تهدّمت بناها التحتية بالكامل. مضت تلك الأيام وبقيت كابل شامخة صامدة. وها هي ذي أفغانستان اليوم -بما فيها كابل- تعيش عيشة سعيدة آمنة مطمئنة.
على كل حال، فأنا لا أقصد الرجوع إلى الوراء ولا أحد يحب ذلك، بل أريد أن أضع كل هذه الآلام إلى جانب، وأن أتطرق إلى الإيجابيات التي جاءت في كابل، خاصة منذ أن سيطرت الإمارة الإسلامية على البلاد، والتي منذ ثلاثة أعوام أحدثت فيها تحولات مفصلية من حيث إعادة بناء الطرق وتعبيدها وبناء طرق جديدة حضرية.
ولا ينكر أحد أبداً أن العمران والخراب في البلاد كلاهما ينبعان من العاصمة، فإذا استقرت العاصمة استقرت البلاد کلها، وإذا سقطت؛ سقطت البلاد كلها. وبفضل الله ثم بجهود الإمارة الإسلامية نشاهد اليوم تقدمًا محسوسًا في العاصمة في مختلف المجالات.
وفي الحلقات اللاحقة- بإذن الله – نلقي الضوء على آخر التطورات في كابل وجهود بلديتها وما رأيناه من الإيجابيات الأخرى فيها.
دیدگاه بسته شده است.