ترشيد العمل الجهادي وحتى لا تتكرر الأخطاء (الحلقة 3)

بقلم: الشيخ محمد بن عبدالله الحصم   الحمدلله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وبعد:   فهذا ثالث المقالات في ترشيد العمل الجهادي، وقد ذكرنا ثلاثاً من هذه الأخطاء، ونذكر في هذا المقال الرابع والخامس. ونذكّر بما قلناه: ليس هذا جلداً للذات، ولا تعييراً ولا تقليلاً من شأن المجاهدين، والخطأ وارد من جميع البشر، ولكن […]

بقلم: الشيخ محمد بن عبدالله الحصم

 

الحمدلله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وبعد:

 

فهذا ثالث المقالات في ترشيد العمل الجهادي، وقد ذكرنا ثلاثاً من هذه الأخطاء، ونذكر في هذا المقال الرابع والخامس. ونذكّر بما قلناه: ليس هذا جلداً للذات، ولا تعييراً ولا تقليلاً من شأن المجاهدين، والخطأ وارد من جميع البشر، ولكن نصحاً لهؤلاء الرجال الذين نرى أن طريقهم فقط هو طريق العزة والكرامة.

 

الرابع: الفوضى الفكرية

 

الساحة الجهادية مفتوحة، ويأتيها المجاهدون من كل حدب وصوب، وقد يأتيها من يحمل أفكاراً فيها غلو أو إرجاء، وتكون المعسكرات والجبهات محلاً للتنازعات الفكرية، والخصومات، فيجب أن تُمنع مثل هذه المطارحات والمناكفات الفكرية، وأن تُرَدّ للشرعيين؛ وذلك لما لهذه المطارحات من أثر في توغير القلوب، والتنازع الذي هو سبب الفشل، فهنا يجب على الشرعيين التدخل وبيان الحق بدليله، وإن كانت من المسائل الخلافية؛ يُمنعوا من الحديث فيها لما تقدم، وهذا يُذكَر عن القائد المعروف (خطاب) أنه كان يمنع مثل هذه الأمور، وكان هذا من أسباب خلوّ جهاد الشيشان في وقته من مثل هذه الأمراض.

 

ومن هذه الفوضى: عدم النكير على من يتطاول على علماء الأمة، حتى من تكلم منهم في المجاهدين، إذا عُرِفَ صدقه واهتمامه في قضايا المسلمين ولم يكن بوقا للطواغيت أو يُظهر العداء لأهل الجهاد كافة ويُسوّغ للطواغيت البطش بهم، كشيوخ الجامية، فهؤلاء لا حرمة لهم ولا كرامة، على أن التزام المجاهد السكوت عنهم أولى حفظاً لدينه، وحتى لا يكون مدخلاً لمرضى القلوب، وتركهم أولى، وكما كان يقول الشيخ أسامة -رحمه الله-: “اتركوهم فهذه الأحداث تُعرّيهم”

 

وصدق رحمه الله، فماذا أبقت الثورات العربية عليهم من ستر؟!

 

لقد فضحتهم جميعاً، فلم تُبقِ أحداً منهم إلا كشفته. فبماذا نتأول لمن وقف مع السيسي ضد مرسي؟! أو وقف مع حفتر ضد شعبه؟! أو أيّد الطاغية بشار ضد المجاهدين؟! أو يزعم أن بريمر ولي أمر؟!

 

نعم.. نريد أن يشتهر عن المجاهدين عفّة اللسان، لا أنهم يطعنون في العلماء، بل نريد منهم إظهار الاحترام للعلماء الذين هم سادة المسلمين، والرد عليهم برفق، وهذا ما يليق بهم لا غير، فالتضليل الإعلامي كبير، والتلبيس حاصل في الواقع، وتشويه المجاهدين على أشُدّه.

 

 

 

الخامس : النفير العشوائي

 

والمقصود به؛ قبول كل من جاء لأرض الجهاد، وإن كان غير معروف ومُزكّى من قبل الثقات في بلده، أو أن ينفر عدد كبير لا تتحملهم تلك الساحة، وهذا له ثلاث آفات:

 

1- أن هذا النفير العشوائي هو من أسباب الاختراقات الحاصلة في صفوف المجاهدين، وقد كان يصعب اختراقهم لما كان الوصول إلى المجاهدين لا بد فيه من تزكية، فلما آلت الأمور إلى الفوضى، كما هو الحال في حرب الأفغان الثانية، وكذا العراق والشام، كان الاختراق على أشده، والمصيبة إن كان الاختراق قد وصل للقيادة أو الأمنيين، وبسبب هذه العشوائية قد يكون العدد كبيراً جداً، ففي إصدار واحد يقبضون على العشرات من الجواسيس كما في تنظيم اليمن، وهم يبشّرون الأمة بالقبض على هؤلاء الجواسيس، وهذه مصيبة فبِمَ يستبشرون؟! فالاختراق بهذا القدر فضيحة وليس بِشارة..

 

2- قد يكون النافر عبئاً وثقلاً على المجاهدين، فينبغي أن يكون النفير بحسب الحاجة، فأحياناً يكون النفير سلبياً، وذلك إذا كانت الحرب حرب عصابات أساسها التخفي، وحاجة المجاهدين تكون للنوع لا العدد، لأن العدد الكبير قد يكون عائقاً في حرب العصابات، وحاجة المجاهدين للكوادر لا للمقاتلين العاديين.

 

أو يُخبِر القادة أنهم ليسوا بحاجة للرجال، بل حاجتهم للمال. وقد أخبرني بعض القادة في الشام، في فترة ما، أنهم ليسوا بحاجة للرجال، ويقول هذا الأخ أن عنده إخوة من أهل البلد يريدون القتال ولا سلاح عندهم.

 

وأيضاً لو حصل انحياز مع العدد الكبير، وقد يتطلب الأمر انحيازاً إلى الأربع جهات، وكان لا يعرف لغة القوم، فكيف سيصنع الإخوة به، هل ينحاز كل رجل ومعه من يهديه ويترجم له؟!

 

فنفير مثل هذا، مع حسن نيته، سيكون عبئاً على المجاهدين، فلو جلس في بلده، ينصرهم ببيان قضيتهم، وجمع التبرعات لهم، وبعثَ بأموال تجهيزه إليهم لكان خيراً له ولهم.

 

وسمع بعض الإخوة أبا الليث الليبي -عليه رحمة الله-، وهذا أسطورة من أساطير الجهاد، يقول لبعض الإخوة النافرين من الخليج: “إذا رأيت فلاناً -يقصد أحد كبار داعمي الجهاد – فبلّغه السلام، وقل له: يقول لك أبو الليث: اتقِ الله، ولا تنفِر إلينا، فإنك بجمعك التبرعات ستُقيم جبهات، بينما لو جئت إلينا ستكون أحد المجاهدين في إحدى هذه الجبهات”. اهـ

 

ولله درُّ أبو الليث ما أحكمه وما أبصره، فعلاً لو ذهب هذا الرجل إلى ساحات الجهاد لكان أحد المقاتلين، وبنفيره ينقطع خيرٌ كثير عن المجاهدين، فحاجة المجاهدين للمال أشد من حاجتهم للرجال.

 

وربما يقول قائل: الرزق بيد الله، والمدد من عند الله، فلا نبالي.

 

والجواب: أعلم أن الرزق بيد الله، وأنه -عز وجل- لن يتخلى عن المجاهدين، لكنه أيضاً أمرنا ببذل الأسباب المتاحة فقال: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا ٱستَطَعتُم ‌مِّن ‌قُوَّة﴾.

 

وكل من عرف أهمية المال بالنسبة للمجاهدين؛ علم لِمَ ربُّنا -جل وعلا- قدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في القرآن الكريم في كل الآيات إلا في آية واحدة.

 

 

 

3- وثالث الآفات: أن يكون هذا النفير هدفاً لبعض الدول تجمِّع به الشباب المتحمّس للجهاد، والذين هم ثروة عظيمة ورصيد للأمة؛ ليسهل اغتيال أكبر عدد ممكن، ولتفريغ البلد منهم، فيتساهلون معهم حتى يخرجوا، فإن خرجوا لربما حاكموهم غيابياً فأعطوهم أحكاماً تضمن عدم قدرتهم على الرجوع لبلادهم.

 

وأنا أعرف شباباً نفروا لسنوات لم يشاركوا في قتال إلا ما شاء الله، وبعضهم ربما جلس يتربّص السنة ليستطيع المشاركة، وقبل هذا استشهد -رحمه الله- بالدرونز الأمريكية، هذه الطائرات المسيرة، التي استطاعت قتل كثير من الإخوة النافرين قبل أن يشاركوا حتى في القتال، ونحن بإرسالنا لهم نكون -من حيث لا نشعر وبحسن نية- نعرّضهم للقتل مجاناً ودون نكاية بالعدو، وكان بقاؤهم في بلدانهم أولى، فليس من أهدافنا تفريغ الساحة منهم، بل نحتاج إليهم، في جهاد المنافقين بالدعوة وتكثير سواد أهل الحق، فمعركتنا مع النفاق قائمة، حتى تتهيأ الأسباب الصحيحة للنفير، فينفروا لنصرة إخوانهم دون أن يكونوا عبئاً على إخوانهم في الثغور، ودون أن يكونوا هدفاً سهلاً للدرونز، وهذه أرواح مؤمنة لا يجوز التفريط بها هكذا مجاناً، دون أن يكون لهم دور يوازي تضحياتهم. والله أعلم.