اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
قبل حوالي ثلاثة أشهر تشرفتُ بلقاء المجاهد البطل والداعية الحكيم، قائد حركة حماس الدكتور إسماعيل هنية في طهران، وتشرفت بتحيته ومصافحته خلال مراسم تشييع الرئيس الإيراني السابق السيد إبراهيم رئيسي ومرافقيه، حيث كنت في الوفد الأفغاني رفيع المستوى الذي يرأسه نائب رئيس الوزراء في الشؤون الاقتصادية الملا عبد الغني برادر ويضم المولوي أمير خان […]
قبل حوالي ثلاثة أشهر تشرفتُ بلقاء المجاهد البطل والداعية الحكيم، قائد حركة حماس الدكتور إسماعيل هنية في طهران، وتشرفت بتحيته ومصافحته خلال مراسم تشييع الرئيس الإيراني السابق السيد إبراهيم رئيسي ومرافقيه، حيث كنت في الوفد الأفغاني رفيع المستوى الذي يرأسه نائب رئيس الوزراء في الشؤون الاقتصادية الملا عبد الغني برادر ويضم المولوي أمير خان متقي وزير الخارجية الأفغانية. عندما كنا في صالون الانتظار، ننتظر دورنا لأداء تقديم العزاء، دخل السيد هنية الصالون، وعندما وقع نظره على الوفد الأفغاني ابتهج واستبشر وجاء إلينا مسلّما ومحيياً ومصافحاً بحرارة ومبتسماً، ووجهه يقطر سروراً وحماساً ونشاطاً، وبخطى قوية وحثيثة، مازلت أحس حرارة كفه وطلاقة وجهه وضياء نظرته وحلاوة بسمته وعذوبة نبرته، تشعر وكأنك تقابل رجلاً بكل ما في الكلمة من معنى وقائداً واقعياً قد خُلق بالأساس للقيادة.
وأما هذه المرة فدخل طهران سليما ومليئا بالحيوية والأمل، متدفقا بالقوة، والابتسامةُ لا تفارق شفتيه، ولكنه عاد جثة محمولة على الأكتاف، بل شهيداً بإذن الله. هذه هي الحياة، يجب أن تغادرها يوماً، وسعيدٌ مَن يغادرها شهيداً بعد عقود من التضحيات والبطولات المتواصلة في سبيل مبادئه وقيمه وشعبه ووطنه. وهكذا كان الشهيد، شهيد الأقصى. الله يرضى عليه.
عقب عقود من الجهاد والكفاح المتواصل في سبيل تحرير القدس ودحر الاحتلال، وتقديم تضحيات جبارة يشيب من هولها الولدان، خلال الحروب ضد الاحتلال، ترجل هذا الفارس البطل والجبل الأشم عن جواده، راضياً عن ربه غير مبال بما تحمّله في سبيل الإله من الأذی؛ إثر عملية اغتيال دنيئة جبانة بأيدٍ غدارة آثمة، وشيمة الاحتلال الإسرائيلي أبداً الغدر، وهذه شيمته التي ورثها أباً عن جد. وشيمة المؤمنين الوفاء والفداء والصمود والثبات، فليبقوا على شيمتهم، ولنبق على شيمتنا، والعاقبة للمؤمنين بإذن الله.
فلستُ أُبالي حِينَ أُقتَلُ مُسلِماً *** على أيِّ جَنْبٍ كانَ في اللهِ مَصرَعي
وذاكَ في ذاتِ الإلهِ وإنْ يَشَأْ *** يُبارِكْ على أوصالِ شِلْو مُمَزَّعِ
بعد تعب طويل واعتقال مرير في سجون الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، وبعد سهر وصبر ومثابرة وعطاء؛ آن له أن يرتاح. لم يضعف ولم يمل من طول السفر وبعد الغاية، ولم يشك مرارة الحياة أبدا، رغم التعب الذي هدّ جسده هداً. بعدما زعزع شعور المحتلين بالأمان وثقتَهم بجيشهم ودولتهم المزعومة، ونسف أسطورة الجيش الذي لا يُقهر ولا يُهزم! بعدما رأى عَجز الجيش الإسرائيلي الغاشم وهزيمته، وسمع بكاء وعويل الجنود الإسرائيليين في مواجهة جنوده الأبطال؛ نال الشهادة، الأمر الذي لطالما بحث عنه بحثا في حياته، وحقّق مبتغاه ونام قرير العين للأبد. هنيئا له الاستشهاد!
وَإِنّا لَقَومٌ لا نَرى القَتلَ سُبَّةً *** إِذا ما رَأَتهُ عامِرٌ وَسَلولُ
يُقَرِّبُ حُبُّ المَوتِ آجالَنا لَنا *** وَتَكرَهُهُ آجالُهُم فَتَطولُ
وَما ماتَ مِنّا سَيِّدٌ حَتفَ أَنفِهِ *** وَلا طُلَّ مِنّا حَيثُ كانَ قَتيلُ
تَسيلُ عَلى حَدِّ الظُباتِ نُفوسُنا *** وَلَيسَت عَلى غَيرِ الظُباتِ تَسيلُ
بعدما فقد عددا غير قليل من أفلاذ أكباده، وهم حازم، ومحمد وأمين، الذين ارتقوا شهداء قبل عدة أشهر جراء قصف إسرائيلي استهدف سيارتهم صباح يوم عيد الفطر برفقة أطفالهم، وفقد عددا من أحفاده وأقاربه؛ التحق بهم شهيداً (بإذن الله) وما بدل تبديلا، وثبت ووقف حتى آخر قطرة من دمائه على مبادئه وقيمه وقناعاته، التحق بركب الشهداء الذين سبقوه إلى الجنة واشتقاق لهم، التحق بالشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي ويحيى عياش وصالح العارور.
استشهد ثلاثة من أفلاذ أكباده في يوم واحد، في مكان واحد، في آن واحد، وانتثرت أشلاؤهم، ولكنه لم يجزع أبدا، بل صبر وشكر ربه على هذا الإحسان، صمد مثل الجبل في هذه المصيبة التي تُبكي جلاميد الصخور، فإن الألم والحزن وفقد الأبناء والاعتقال كل ذلك يهون مقابل أهداف عالية مقدسة، وهي الحرية والكرامة والفضيلة والدين والوطن.
وهل يُضعف استشهاد هذا البطل معنويات وعزائمَ المجاهدين في غزة؟ وهل تكل عزائمهم بعد هذا الحدث؟
أبداً. لن تضعف عزائمهم، ولن تلين لهم قناة، ولن تنحني منهم الجباه، ولن تخور قواهم، ولن يلتمسوا طريقاً للهروب، وإنما يلتمسون طريقا للجنة والحياة الأبدية والحرية السرمدية. وهذه الاغتيالات -دون شك- تزيدهم قوة وإصراراً وصلابة، لأنهم لا يقاتلون حباً لهنية وابتغاء مرضاته، إنما هم يقاتلون حباً لرب هنية وابتغاء مرضاته، ودفاعا عن الأرض والعرض والأقصى، وذودا عن المستضعفين.
وهل يَضعف مَن يقاتل بحثا عن الشهادة والجنة ولقاء الأحباب الذين فارقوا الدنيا قبله؟
ولكن المشكلة أن الأعداء يقارنون شعوبنا بشعوبهم وجنودنا بجنودهم، كلا! شتان بين جنودنا وجودهم. جنودنا يقاتلون في سبيل مبادئ وقيم ومقدسات، وجنودهم يقاتلون في سبيل الطاغوت والماديات. هل يستوي مَن يقاتل في سبيل الله ومَن يقاتل في سبيل الطاغوت؟
وهذا الاستشهاد -لحسن الحظ- بعث صحوة قلّما تجد لها مثيلاً في أوساط الشباب، ونفخ روحا جديدة في عروق شباب الأمة، وأحياهم من جديد. ومن بين هذه الاغتيالات على أيدي الاحتلال وهذه التضحيات والبطولات الجسام على أيدي قادة المسلمين؛ سينهض دوماً جيل جديد لا يعرف إلا التوكل على الله، والصبر وتحمل المكاره والوثبة والإقدام، جيل لا يثق بغير الله ملجأ، ويثق فقط بربه وسواعده وسلاحه، جيل يحتضن السلاح ويرتدي درع الصمود والصبر، ينشأ جيل لا يعرف الهزيمة ولا يعرف الكلل والملل، جيل يتحدى الموت ويقاتله ويصارعه، جيل يفاجئ الأعداء كسيل جارف لا يقف في وجهه شيء، كطوفان شديد جاء يحصد كل شيء، جيل لا يدري ما هو الخوف، وما هي الهزيمة، وهذا الجيل سيكون جيل النصر والتمكين بإذن الله، وما ذلك على الله بعزيز.
وبعد كل ليلة ظلماء يطلع فجر مشرق، وكلما اسودّ الليل كلما اقترب الصباح، “حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا جاءهم نصرنا”.
ترجل هذا الفارس، وركب الحصانَ فارس آخر أشد على الأعداء. رحل هذا القائد الحكيم، وقام قائد مفعم بالذكاء وأعلم بمواقع ضعف العدو. رحل هذا القائد ولكن الكفاح للدين والأرض مستمر.
إذا مات منا سيد قام سيد *** قؤول لما قال الكرام فعول!
دیدگاه بسته شده است.