اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
بقلم: الشيخ محمد بن عبدالله الحصم القاعدة الأولى: لا منافاة بين البراءة من الكافر واللين معه لدعوته المخالف يقصد به المخالف في الدين وهو الكافر، فبينما هناك آيات تأمر بالشدة والغلظة معه كقوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين”، هناك آيات […]
بقلم: الشيخ محمد بن عبدالله الحصم
القاعدة الأولى: لا منافاة بين البراءة من الكافر واللين معه لدعوته
المخالف يقصد به المخالف في الدين وهو الكافر، فبينما هناك آيات تأمر بالشدة والغلظة معه كقوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين”، هناك آيات أخرى تأمر باللين معهم كقوله تعالى: “اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى”.
والجواب عن هذا الإشكال أن نقول: فرق بين مقام القتال ومقام الدعوة بالإقناع، فالمقام الأول يحتاج الشدة والغلظة والقسوة، والمقام الآخر مقام تبليغ لحجة ومناظرة، تحتاج معها إلى اللين والأخذ والعطاء مع المدعو.
وكذا هناك فرق بين مقام القوة ومقام الاستضعاف، فالنبي في مكة مستضعف كان يلين لهم، ويتحمل أذاهم، واستهزاءهم به وسفاهتهم، ويصبر على جفائهم، وأما في المدينة بعد الهجرة، في مقام القوة فالوضع يختلف، كان يرسل لهم جيوشه وسراياه، يدعوهم لدين الله بإقامة الحجة، فإن أبوا غزاهم وقاتلهم.
كذلك البراءة من الكافر لا تعني عدم بره إن كان قريبا، وصلته بهدية ونحوها تأليفا لقلبه، فالبراءة منه مقام عقيدة ثابتة راسخة، لا يتنافى مع مقام الصلة والبر لمن لم يظلم المسلمين، أو يعين عليهم أو يتآمر ضدهم. قال الله تعالى: “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون”.
وفي حديث أسماء -رضي الله عنها-: قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: «نعم صلي أمك» متفق عليه.
قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح: البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه. [5 / 233].
وقال العلامة ابن القيم: فإن الله سبحانه لما نهى في أول السورة (الممتحنة) عن اتخاذ المسلمين الكفار أولياء وقطع المودة بينهم وبينهم، توهم بعضهم أن برهم والإحسان إليهم من الموالاة والمودة، فبين الله سبحانه أن ذلك ليس من الموالاة المنهي عنها، وأنه لم ينه عن ذلك، بل هو من الإحسان الذي يحبه ويرضاه، وكتبه على كل شيء، وإنما المنهي عنه تولي الكفار والإلقاء إليهم بالمودة [أحكام أهل الذمة: 1/ 602].
القاعدة الثانية: الفرق بين البراءة من الكافر والبراءة من العاصي
الفرق كبير، فالكافر البراءة منه ومن عمله، كما ذكر عن إبراهيم والذين معه آمرا لنا بالائتساء بهم: “إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله”.
أما البراءة من المسلم العاصي، فمن عمله ومعصيته لا من ذاته وشخصه، قال تعالى: “وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ”، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد” والحديث عند البخاري وغيره.
فيبقى المسلم مبتدعا أو عاصيا أو مخطئا، أولى بالرحمة والشفقة، وأولى بك ومحلا لنصحك وإرشادك، تفرح بتوبته واستقامته، كما تحزن لبعده وانحرافه.
القاعدة الثالثة: الحرص على ظهور الحق لا نصرة النفس
هذا من آداب المناظرة، وهذا قد يحتاجه الداعية؛ لأنه ربما يجد معارضا له في الفكر أو الطريقة، فيجد الداعية نفسه في مناظرة مع المخالف، فهذا أدب مهم يدل على الإخلاص والصدق، ورحم الإمام الشافعي إذ كان يقول: “ما ناظرت أحد قط إلا أحببت أن يوفق، أو يسدد، أو يعان، ويكون رعاية له من الله وحفظ، وما ناظرت أحدا إلا ولم أبالِ بيّن الله الحق على لساني أو لسانه، وما ناظرت أحدا إلا أحببت أن يظهر الله الحق على يديه، وما ناظرت أحددا فأحببت أن يخطئ، وما ناظرت أحدا على الغلبة إنما على النصيحة”. هذا بعض ما قاله الإمام الشافعي -رحمه الله- في هذه القاعدة، تجده مبثوثا في تراجمه.
القاعدة الرابعة: الإنصاف مع المخالف
ومعناه: أن الاعتراف للخصم بالصواب خلق شريف، وهو دليل التجرد والصدق، كما أن غمط الحق كبر، ودليل غرور ودناءة. وههنا قصة تجدل على هذا الخلق نذكرها لنعتبر بها، وقد ذكرها العلامة ابن حزم -رحمه الله- في رسائله: ناظرت رجلا من أصحابنا في مسألة، فعلوته فيها لبكوء كان في لسانه، وانفصل المجلس على أني ظاهر، فلما أتيت منزلي حاك في نفسي منها شيء، فتطلبتها في بعض الكتب، فوجدت برهانا صحيحا يبين بطلان قولي وصحة قول خصمي، وكان معي أحد أصحابنا ممن شهد ذلك المجلس، فعرفته بذلك، ثم رآني قد علمت على المكان من الكتاب، فقال لي: ما تريد؟ فقلت: أريد حمل هذا الكتاب وعرضه على فلان وإعلامه بأنه المحق وأني كنت المبطل وأني راجع إلى قوله. فهجم عليه من ذلك أمر مبهت وقال لي: وتسمح نفسك بهذا! فقلت له: نعم، ولو أمكنني ذلك في وقتي هذا لما أخرته إلى غد.
ثم قال معلقاً رحمه الله: واعلم أن مثل هذا الفعل يكسبك أجمل الذكر مع تحليك بالإنصاف الذي لا شيء يعدله. ولا يكن غرضك أن توهم نفسك أنك غالب، أو توهم من حضرك ممن يغتر بك ويثق بحكمك أنك غالب، وأنت بالحقيقة مغلوب، فتكون خسيسا وضيعا جدا وسخيفا البتة وساقط الهمة وبمنزلة من يوهم نفسه أنه ملك مطاع وهو شقي منحوس، أو في نصاب من يقال له إنك أبيض مليح وهو أسود مشوه، فيحصل مسخرة ومهزأة عند أهل العقول الذين قضاؤهم هو الحق. [رسائل بن حزم 4/ 337].
القاعدة الخامسة: إحسان الظن بالمخالف وعدم الفجور بالخصومة
فحسن الظن بالمخالف مطلوب، والفجور في الخصومة منهي عنه، ومن الفجور في الخصومة النابع عن سوء الظن: الطعن في النوايا، فالواجب الظن بمن يخالفك بأنه مريد للحق، وأن الشبهة ما زالت قائمة، وأنك لم توفق لإزالتها عنه.
وقد نهى الله عباده عن إساءة الظن فقال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ”. وفي الصحيحين: “إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث”.
قال العلماء: الظن المنهي عنه هو التهمة بلا سبب ظاهر، ولا أمارة صحيحة، وهذا الظن بمن ظاهره الصلاح حرام لا يجوز، أما من اشتهر بالريب والمجاهرة بالخبائث كالفنانين والمطربين، وأصحاب قنوات الفساد، فلا يرد عليه النهي.
وقوله: “إن بعض الظن إثم”، أي: يوقع في الإثم، لأن سوء الظن إذا استقر في النفس لا يدع صاحبه حتى يقول ما ينبغي أو يفعل ما ينبغي، أيضا يؤدي إلى بغض أخيه المؤمن الواجب محبته.
وأما الفجور في الخصومة من خصال النفاق الأربع التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث عبدالله بن عمرو أن الحبيب -صلى الله عليه وسلم- قال: “أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر”.
القاعدة السادسة: ألا يمتحن المخالف في نيته أو عقيدته
النبش في عقيدة المخالف في غير موضوع النقاش حيدة عن الموضوع، وينبئ بعلو كعب المخالف في النقاش، خاصة إن كان فيه إحراج أمني، أو وظيفي، بمعنى قد يوقعه في إظهار ما يعتقد إلى مساءلة أمنية، أو فصل من وظيفته، أو تضييق عليه في رزقه، فهذا فيه من الابتزاز وسقوط المروءة ما فيه.
القاعدة السابعة: حمل كلام المخالف على أحسن المحامل وعدم تقويله بما لم يقل
وهذه كذلك من الآداب التي يحسن بالمناظر والداعية التحلي بها، فالمناظر غايته إظهار الحق وبيانه، لا إسقاط المناظر والعلو عليه، أو الانتقام والتشفي منه، فإذا قال كلمة تحتمل أوجهاً من الخير والشر؛ فمن الأدب حملها على المحمل الحسن، ولا تحمله الرغبة في الانتصار وإسكات المناظر إلى حمل الكلام على المحمل السيء، وهكذا إلزامه بلازم لم يلتزمه، فقد قرر العلماء أن لازم المذهب ليس بمذهب حتى يلتزمه صاحبه، ولكن فساد اللازم دليل على فساد المذهب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ولازم المذهب ليس بمذهب، لكن إذا كان فاسدًا دلّ على فساد المذهب [قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق (99)].
القاعدة الثامنة: عدم ازدراء المخالف والتحلي بالحلم
ازدراء واحتقار المخالفين ليست من أخلاق الإسلام، بل هي من الكبر المذموم شرعاً، قال عليه الصلاة والسلام: “الكبر بطر الحق وغمط الناس” رواه مسلم وقد تقدم.
بطر الحق: هو دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا. غمط الناس: معناه احتقارهم.
والواجب من الداعية والأليق به الحلم واحتمال أذى الناس لا العكس.
ولنتذكر قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: “ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حوله”.
القاعدة التاسعة: استعمال الهجر عند الحاجة
الأصل في الهجر بين المسلمين الحرمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان: فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام”. متفق عليه من حديث أبي أيوب.
هذا في أمر دنيوي، أما الهجر لمبرر شرعي فيجوز أكثر من ذلك؛ والدليل حديث الثلاثة الذين خلفوا، فقد هجرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون حتى أنزل الله توبتهم. ولكن هذا الهجر المشروع ليس لمجرد القطيعة، بل له أهداف شرعية وهي صلاح المهجور، وزجر غيره، فإذا لم يتحقق هذا الغرض والهدف الشرعي، فالتأليف خير منه، وكان الهجر هنا غير مـشروع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله. فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة، بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا. وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر. والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين.
كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك كانوا سادة مُطاعين في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح. وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل؛ ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة؛ وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المُطاعين وغيرهم. وإذا عُرِف مقصود الشريعة، سُلك في حصوله أوصل الطرق إليه. [مجموع الفتاوى (28/ 206)].
القاعدة العاشرة: صدق اللجوء إلى الله في طلب هدايته
وأخيرا فاعلم أيها الداعية أن هداية التوفيق بيد الله، فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ومن اهتدى فبفضل الله وتوفيقه، ومن ضل فبعدل الله وبما كسبت يداه.
واعلم أن الهدى والتوفيق له أسباب، كما أ ن الضلال والخذلان له أسباب، ومن أهم أسباب الهداية والتوفيق: الصدق في الاستعانه بالله، والالحاح عليه بالدعاء.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: تكرر في القرآن جعل الأعمال القائمة بالقلب والجوارح سبب الهداية والإضلال، فيقوم بالقلب والجوارح أعمال تقتضي الهدى اقتضاء السبب لمسببه والمؤثر لأثره، وكذلك الضلال، فأعمال البر تثمر الهدى وكلما ازداد منها ازداد هدى، وأعمال الفجور بالضد، وذلك أن الله -سبحانه- يحب أعمال البر فيجازي عليها بالهدى والفلاح، ويبغض أعمال الفجور ويجازي عليها بالضلال والشقاء، وأيضا فإنه البر ويحب أهل البر فيقرب قلوبهم منه بحسب ما قاموا به من البر. [الفوائد لابن القيم (ص: 129)].
دیدگاه بسته شده است.