السيادة للشرع مطلقاً

إعداد: أبو عبدالرحيم (نيازى) سبق في العدد الماضي أن عرضنا آراء ثلاثة في موضوع مصدرالسيادة وهي: 1 – السيادة للأمة متمثلة في رئيس الدولة. 2 –  السيادة للأمة والشعب معاً. 3 –  السيادة للأمة مطلقاً. وها هنا سنتكلم عن الرأي الرابع وهو أن السيادة للشرع مطلقاً. ويكون البحث عن نقطتين: الأولى أن السيادة للشرع والثانية […]

إعداد: أبو عبدالرحيم (نيازى)

سبق في العدد الماضي أن عرضنا آراء ثلاثة في موضوع مصدرالسيادة وهي:

1 – السيادة للأمة متمثلة في رئيس الدولة.

2 –  السيادة للأمة والشعب معاً.

3 –  السيادة للأمة مطلقاً.

وها هنا سنتكلم عن الرأي الرابع وهو أن السيادة للشرع مطلقاً. ويكون البحث عن نقطتين: الأولى أن السيادة للشرع والثانية مظاهرالسيادة في الدولة.

 

أولاً: السيادة للشرع مطلقاً

إلى هذا الرأي ذهب جمهور المسلمين بل انعقد عليه الإجماع حين بحثوا مسألة الحاكم من هو؟ وحكى الشوكاني عدم وقوع الخلاف في ذلك، قال البخاري: كانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها فاذا وضع الكتاب اوالسنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. “ارشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ص 8 والامام البخاري 194”.

وقد نص بعض مفكري الإسلام من علماء الأصول وغيرهم صراحة على كون السيادة محصورة في الشرع وحده مطلقاً، وأنه لا حكم قبل ورود الشرع، وأن العقل لاحكم له مطلقاً منهم الآمدي وأبوبكر المعروف بابن العربي والأسنوي والشوكاني وابن القيم. “زاد امعاد 1/4-5”.
فالأدلة الشرعية حددت الإطار العام لكافة التصرفات سواء كانت صادرة من الحكام أم المحكومين؛ فالكل خاضع لها وملزم بطاعة أحكامها، فالشريعة حاكمة لغيرها ولا يجوز تجاوزها أو إلغاؤها أو تبديلها أو تعديلها. “السيادة في الإسلام، ص125- 129، وآثار الحرب في الفقه الإسلامي، ص178”.
يقول تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}. سورة الأنعام، آية: 57، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا}.  سورة الأحزاب، آية: 36.  ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} سورة النساء، آية: 59. وقال صلى الله عليه وسلم: “السيد الله تبارك وتعالى”.
فالسيادة في الدولة الإسلامية لله عز وجل، فالتشريع له وحده سبحانه، وهذه السيادة متمثلة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والدولة إنما تستمد سيادتها من خلال التزامها بالأحكام الشرعية وتنفيذها لها، وللأمة بعد ذلك حق تولية الإمام ومحاسبته وعزله ومراقبة السلطة الحاكمة في التزامها حدود الله، وليس لها ولا للسلطة الحاكمة الحق في العدول عن شريعة الله. “السيادة في الإسلام، ص168”. فلا عبادة إلا لله. ولا طاعة إلا لله ولمن يعمل بأمره وشرعه، فيتلقى سلطانه من هذا المصدر الذي لا سلطان إلا منه. فالسيادة على ضمائر الناس وعلى سلوكهم لله وحده بحكم هذا الإيمان. ومن ثم فالتشريع وقواعد الخلق، ونظم الاجتماع والاقتصاد لا تتلقى إلا من صاحب السيادة الواحد الأحد، من الله، فهذا هو معنى الإيمان بالله. ومن ثم ينطلق الإنسان حراَ إزاء كل من عدا الله، طليقًا من كل قيد إلا من الحدود التي شرعها الله، عزيزاً على كل أحد إلا بسلطان من الله “في ظلال القرآن، 1/341”.
وقد ذهب البعض إلى تقسيم السيادة إلى قسمين أحدهما: السيادة المطلقة وهي لا تكون إلا لله عز وجل، والثاني: السيادة النسبية وهي تكون للأمة ضمن حدود أحكام الشريعة الإسلامية. “الإسلام والقانون الدولي، ص251-253”.
ولعل الأنسب أن يقال: إن السيادة لشريعة الله، وهذا لا يسلب الأمة الحق في التخريج على أصول الشريعة والاجتهاد في تطبيق أحكامها على النوازل، وبالتالي فالسيادة لله وحده، أما سلطة الحكم فهي مفوضة إلى الأمة تمارسها في حدود السيادة. “الحريات العامة في الإسلام، ص207”.
فإذا كانت بعض الدول الحديثة تعتز بأنها تلتزم بسيادة القانون والتمسك بالدستور، فإن الدولة الإسلامية تلتزم بالشرع، ولا تخرج عنه، وهو قانونها الذي يلزمها العمل به والرجوع إليه، حتى تستحق رضوان الله وقبول الناس. وهو قانون لم تضعه هي، بل فرض عليها من سلطة أعلى منها، وبالتالي لا تستطيع أن تلغيه أو تجمده إلا إذا خرجت عن طبيعتها ولم تعد دولة مسلمة. “من فقه الدولة في الإسلام، ص33”.

فنظرية السيادة في الإسلام ليس لها الطابع السلبي الذي عُرفت به نظرية السيادة بوجه عام؛ لكون الدولة الإسلامية لا سيادة فيها على الأمة لفرد أو طائفة؛ فالأساس الذي تبني عليه نظامها هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبهذا تتجاوز نظرية السيادة في الإسلام المشكلات والتناقض التي وقعت فيها نظرية السيادة الغربية. “الدولة الإسلامية بين التراث والمعاصرة، ص 57- 62، وخصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم، ص185-186”.
فـ”السيادة العليا والسلطان المطلق هو لما جاء من عند الله – عز وجل – لا غير، وإن المنازعة في ذلك كفر وشرك وضلال. “نظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية، ص39”.
ثانياً: مظاهر السيادة في الدولة

بعد الحديث عن مفهوم السيادة ونشأتها ومصدرها فمن المهم بيان مظاهرها، وللسيادة مظهران:
الأول: المظهر الخارجي: ويكون بتنظيم علاقاتها مع الدول الأخرى في ضوء أنظمتها الداخلية، وحريتها في إدارة شؤونها الخارجية، وتحديد علاقاتها بغيرها من الدول وحريتها بالتعاقد معها، وحقها في إعلان الحرب أو التزام الحياد.
والسيادة الخارجية “مرادفة للاستقلال السياسي، ومقتضاها عدم خضوع الدولة صاحبة السيادة لأية دولة أجنبية، والمساواة بين جميع الدول أصحاب السيادة، فتنظيم العلاقات الخارجية يكون على أساس من الاستقلال.”العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث، ص117”. وهي تعطي الدولة الحق في تمثيل الأمة والدخول باسمها في علاقات مع الأمم الأخرى. “نظرية الدولة والمبادئ العامة للأنظمة السياسية ونظم الحكم، ص106”.
ومما ينبغي الإشارة إليه أن هذا المظهر لا يعني أن تكون سلطتها عليا، بل المراد أنها تقف على قدم المساواة مع غيرها من الدول ذات السيادة، ولا يمنع هذا من ارتباطها وتقييدها بالتزامات أو معاهدات دولية مع غيرها من الدول. “النظم السياسية [تطور الفكر السياسي والنظرية العامة للنظم السياسية]، ص193”.
الثاني: المظهر الداخلي: ويكون ببسط سلطانها على إقليمها وولاياتها، وبسط سلطانها على كل الرعايا وتطبيق أنظمتها عليهم جميعاً، لكن الدولة الإسلامية ولما تتميز به من سماحة، ووفقاً للأحكام الشرعية تمنح الذميين حق تطبيق أحكامهم الخاصة في جانب حياتهم الأسرية، إلا أن هذا لا يكون امتيازاً لهم ولا يُقيد أو يحُد من سلطان الدولة أو سيادتها، ويكون قابلاً للاسترداد، فلا ينبغي أن يوجد داخل الدولة سلطة أخرى أقوى من سلطة الدولة. “معالم الدولة الإسلامية، ص118، والعلاقات الدولية في الإسلام، ص57- 58، وأحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية، ص124، والإسلام والعلاقات الدولية في السلم والحرب، ص 87”.
وينبغي أن تكون سلطة الدولة على سكانها سامية وشاملة، وألا تعلو عليها سلطة أخرى أو تنافسها في فرض إرادتها. “نظرية الدولة في الإسلام، ص49”.
وكلا المظهرين في الدولة مرتبط بالآخر، فسيادتها الخارجية هي شرط سيادتها الداخلية. “نظرية الدولة والمبادئ العامة للأنظمة السياسية ونظم الحكم، ص107”.
وهذه المظاهر للسيادة سواء أكانت في الخارج أم الداخل أقرها الإسلام وفقاً للأحكام الشرعية. “العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث، ص118-119”. فعلى صعيد السيادة الخارجية ينبغي أن تكون للدولة الإسلامية هيبتها ومكانتها بين الدول وألا تتبع أو تخضع لغيرها، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} سورة النساء، من الآية:141. “أي: في الدنيا بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة… وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على أصح قولي العلماء، وهو المنع من بيع العبد المسلم للكافر لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال” تفسير ابن كثير، 1/568. فالآية تحرم منح الكافر أية سلطة على المسلم، فكيف الحال إن تسلطت دولة كافرة على دولة مسلمة!
ومسألة تطبيق الأحكام الإسلامية على المسلمين والذميين أينما وجدوا ما هي إلا مظهر من مظاهر سيادة الدولة الإسلامية على رعاياها. “العلاقات الدولية في الإسلام، ص 60-61”.
وعلى صعيد السيادة في الداخل فقد جاءت النصوص التي تحث على طاعة الله ورسوله وولاة الأمر والنهي عن الخروج عن طاعته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} سورة النساء، آية: 59.
وقيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الخروج بغياب مظهر من مظاهر سيادة الأحكام الشرعية وهو إقامة الصلاة، بقوله: “ستكون أُمراءُ فَتَعْرِفُونَ وتُنْكِرُون، فمن عرف بَرِئَ، ومن أَنْكَرَ سَلِمَ، ولَكِن من رَضِيَ وَتَابَعَ. قَالُوا: أَفَلا نُقَاتِلُهُمْ قال: لا ما صَلَّوْا. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، رقم: 1854. ودل الحديث على أنه لا يجوز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم أو الفسق ما لم يغيروا شيئاً من قواعد الإسلام. “شرح النووي على صحيح مسلم، 12/243-244”. وإنما منع عن مقاتلتهم ما داموا يقيمون الصلاة التي هي عنوان الإسلام حذراً من هَيْجِ الفتن واختلاف الكلمة وغير ذلك مما يكون أشد نكاية من احتمال نُكْرِهِمْ والمصابرة على ما يُنْكِرُونَ منهم. “تحفة الأحوذي، 6/449”.

وعن أنس بن مالك قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغِيرُ إذا طلع الفجر، وكان يَسْتَمِعُ الأذان، فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار” أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر، رقم: 382. ودل الحديث على أن الأذان شعار لدين الإسلام لا يجوز تركه، فلو أن أهل بلد أجمعوا على تركه كان للسلطان قتالهم عليه، وفيه دليل على أن مجرد وجود المسجد في البلد كاف في الاستدلال به على إسلام أهله وإن لم يسمع منه الأذان. عون المعبود، 7/214.
مما سبق يتضح أن ظهور شعائر الإسلام وأحكامه وخاصة الصلاة والأذان هي جزء من مظاهر السيادة الداخلية في الدولة الإسلامية، وليس المراد بقيام الصلاة أداء أفراد من الناس لها، بل المراد أن تكون جزءاً من عمل الإمام. “الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، ص335”.
فتعريفات الفقهاء لدار الإسلام والضوابط التي وضعوها تشير إلى مظاهر السيادة الداخلية في الدولة الإسلامية. وتنقسم الدول من جهة السيادة إلى قسمين:
القسم الأول: دول ذات سيادة كاملة لا تخضع ولا تتبع في شؤونها الداخلية أو الخارجية لرقابة أو سيطرة من دولة أخرى، ولها مطلق الحرية في وضع دستورها أو تعديله.
القسم الثاني: دول منقوصة السيادة لا تتمتع بالاختصاصات الأساسية للدولة لخضوعها لدولة أخرى أو تبعيتها لهيئة دولية تشاطرها بعض الاختصاصات، كالدول التي توضع تحت الحماية أو الانتداب أو الوصاية وكالدول المستعمرة. “النظم السياسية – الدولة والحكومة، ص161- 164”.
وهذا الاستقلال أو التبعية لا يؤثران على وجود الدولة الفعلي. وهو ليس تقسيماً مؤبداً بل هو قابل للتغيير والتبديل تبعاً لتغير ظروف كل دولة. “الوسيط في النظم السياسية والقانون الدستوري، ص 34. والنظم السياسية والقانون الدستوري، ص181”.

وخلاصة ما سبق أن السيادة في الدولة الإسلامية لله تعالى متمثلة في شريعته، فهي تختلف عن غيرها من الدول، فسيادتها بسيادة شرع الله فيها وتطبيقها لأوامره في كافة شؤونها، وإن أي تدخل لتعطيل الأحكام الشرعية سواء كان من جهة في داخل الدولة أو خارجها، فهو إخلال بالسيادة في الدولة الإسلامية.