جلال الدين حقاني..العالم الفقيه والمجاهد المجدد (5)

أ. مصطفى حامد المصري   ■ الرحلة الثانية إلى مقر حقاني (1981 ) .. ملامح الجهاد تتشكل. ■ حقاني: الخطر ليس من الجيش السوفييتي، بل من غياب الوحدة بين المجاهدين. ■ حقاني يتخطى القواعد العامة لحرب العصابات، من أجل الوصول إلى القوانين الخاصة للحرب في باكتيا. ■ حقاني: موقف الجيش السوفيتي في أفغانستان عام 1981 أضعف من موقف القوات الشيوعية […]

أ. مصطفى حامد المصري

 

 الرحلة الثانية إلى مقر حقاني (1981 ) .. ملامح الجهاد تتشكل.

 حقاني: الخطر ليس من الجيش السوفييتي، بل من غياب الوحدة بين المجاهدين.

 حقاني يتخطى القواعد العامة لحرب العصابات، من أجل الوصول إلى القوانين الخاصة للحرب في باكتيا.

 حقاني: موقف الجيش السوفيتي في أفغانستان عام 1981 أضعف من موقف القوات الشيوعية قبل الغزو السوفيتي.

 حقاني المهندس الأول للطرق العسكرية في الجبال.

 شهدنا آخر معركة من التراث الحربي لقبائل باكتيا.

 

جميع السمات الخاصة بالجهاد في أفغانستان كانت تتشكل في سنواته الأولى، منذ نجاح الانقلاب الشيوعي في إبريل 1978 وإلى عام 1981. جميع المزايا، ونواحي القصور، ومواطن القوة، ومخابئ الضعف التي تتربص بالعمل الجهادي حتى تقضي عليه.

– خلال رحلتي الثانية لملاقاة مولوي حقاني في مركز سرانا بالقرب من جرديز، حيث كان لقاؤنا الأول، في صيف عام 1979 كتبت في أوراقي عن تلك الرحلة ما يلي:

كان من السهل ملاحظة حالة انتعاش عام بالمقارنة مع الصورة السابقة عام 1979م . كان عدد المجاهدين أكثر ومعنوياتهم أعلى، والقرى مازالت عامرة رغم عمليات الهجرة التي تمت، ويبدو أنها كانت هجرة انتقائية ـ أو بقاء انتقائي ـ بمعنى أن الذي هاجر كان من الفئات الضعيفة التي لا تتحمل الحياة في ظل حالة الحرب. وبقت عناصر قوية قادرة على العمل والقتال معا. مضى يومان ومازلنا في منتصف الطريق بين الجبال الشاهقة، وفي أحد المقاهى المرتجلة على جانبي الطريق وتسمى “السماوات” . تمددت كمن يتهيأ للانتقال إلى السماوات العلى . لم أكد أتذوق طعامًا منذ غادرنا ميرانشاه. والتهاب الحلق جعلني أشرب الماء بلا حساب حتى أنهكني الضعف. كان يرافقني في الرحلة شابان فى مقتبل العمر، وهما من طلاب العلوم الشرعية (طالبان) وصار لهما شأنا كبيرا فيما بعد في معارك باكتيا ضمن مجموعات جلال الدين حقاني. الأول كان (حنيف شاه) الذي أصبح قائدًا ميدانيًا رائعًا تميز بالشجاعة والابتكار، وهو من قبائل تاناي. والآخر هو سيف الرحمن والذي عمل فى قسم الإمداد العسكري لجبهات حقاني إلى نهاية الحرب. (سيف الرحمن) أحضر لي  قليلًا من التوت ـ لا أدري من أين حصل عليه ـ ودفعه لي وأنا في شبه غيبوبة. ولما علمت أنه (توت) انتابني شيء من النشاط والتهمته بالسرعة الممكنة، وطلبت المزيد، واستبشر الفتيان وأحضرا كمية أخرى، وتحسنت أحوالي قليلا. زاد من نشاطي ما أخبراني به أننا على وشك النزول إلى الطريق العام المؤدي إلى جرديز ومن هناك سنركب شاحنة إلى مكان قريب من سرانا .

أدهشني النبأ ودفعني الفضول إلى الحركة وأنساني آلام المرض . الشاحنة الضخمة تقف إلى جانب الطريق تحت الجبل و مغطاة بعناية خوفا من الطيران.

المسافرون تحت الأشجار وإلى جانب الصخور في انتظار موعد الإقلاع ـ أقصد الحركة ـ وكان عند إصفرار الشمس تفاديا للطيران كما يحدث تمامًا في العمليات العسكرية. كنت أتوقع أن تحملنا الشاحنة الضخمة ـ وهو ما حدث فعلا ـ ولكن لم أتوقع أن أحمل كميات من المتاع ومن الإخوة المسافرين فوق رأسي وقدمي وصدري، وكل ما تيسر من جسمي حسبما تتيحه ظروف الطريق. ولكونها التجربة الأولى من نوعها فقد أنستني الدهشة سلبيات الرحلة. وقد رأيت في السنوات اللاحقة رحلات (آلية) أسوأ من تلك بكثير، ويمكنني الآن أن أقول بأنها كانت رحلة درجة أولى رغم أن ذلك لم يكن رأيي وقتها.  تقابلت مع الشيخ جلال الدين في سرانا وكان قد مضى عام تقريبا منذ آخر لقاء لنا في أبو ظبي أثناء زيارته مع الوفد الذي ترأسه سياف .

كان أهم ما يشغلني موضوعان: الأول ما هو الوضع العسكري؟ وكيف استطاعوا الصمود إلى الآن؟ وكان قد مضى عام ونصف على التدخل العسكري السوفييتي, فهل يعتقد بإمكانية الاستمرار؟ الموضوع الثاني: ما هو رأيه في وضع (الاتحاد) الآن وهل هناك أمل في اتحاد حقيقي بين المجاهدين؟ .. وماهو دور سياف وكيف يمكن دعمه ؟ . بالنسبة للوضع العسكري كان (جلال الدين) متفائلا ويرى أنه قد تحسن عن ذي قبل ، وأن الروس لم يكونوا مخيفين إلى تلك الدرجة التي أشيعت عنهم وأن هزيمتهم ممكنة جدا لو توافرت بعض الشروط وعلى رأسها اتحاد المجاهدين في الجبهات اتحادا حقيقيا. وأن العقبة الرئيسية أمام ذلك هم قادة  الأحزاب في بيشاور، الذين يبذلون أقصى جهد لمنع اتحاد المجاهدين في الداخل ويهددون من يفعل ذلك بمنع المساعدات، بل ويحرضون أتباعهم في الداخل لمقاتلة أتباع الآخرين.

وهذا أكثر ما يخشاه على مستقبل الجهاد . أما السوفييت فليسوا هم المشكلة الرئيسية. هكذا كان الموضوعان مترابطان، فالتقدم على الجبهة العسكرية مرتبط تماما  بتحقيق ترابط في المجال السياسي. والعكس يبدو صعبا، وإن كان هو البديل الوحيد  وهو أن يكون التقدم العسكري وسيلة ومدخلا لتحقيق تماسك سياسي . سواء تم هذا التماسك في بيشاور ـ أو كما خطر في  بالنا لاحقا أن يتم تماسك سياسي داخلي ،أي إتحاد سياسي بديل في الداخل ، وإلغاء دور زعامات  بيشاور ، وهذا بدوره لم يحدث مطلقا.

عن الوضع العسكري في باكتيا أخبرني مولوى (جلال الدين) بأن الروس لم يستطيعوا تغيير الأوضاع السابقة، وأن المجاهدين استطاعوا إحباط محاولات السوفييت لتغيير الموازين العسكرية في الولاية. وأهم العلامات أن الجيش الأحمر فشل في توصيل الإمدادات إلي مدينة خوست من الطريق البري. سواء عبر مناطق (زدران) وهي قبائل جلال الدين، أو عبر الطريق المار في مناطق (منجل) وهي قبائل في شمال وشرق المحافظة. إن المجاهدين ـ كما يرى حقاني ـ أصبحوا أكثر جرأة على الروس. وقد ذكر مثلا لطيفا على ذلك فقال بأن هناك قولًا لدى الأفغان بأن الإنسان يجب أن يحذر من الكلب الذي يرقد صامتًا، أما إذا بدأ الكلب في النباح فلا تهتم به. وضحك حقاني قائلا لقد نبح الروس، فسقطت هيبتهم في نفوسنا.

أخبرني حقاني بأن باكستان بدأت في إعطاء بعض المساعدات للمجاهدين. وأن أسلحة صينية و مصرية قد وصلت إلى المجاهدين عن طريق باكستان وأن من ضمن هذه الأسلحة صواريخ سام7 المضادة للطائرات وأن حقاني تسلم منها أربعة صواريخ، كما تسلم عددا من الرشاشات الثقيلة المضادة للطائرات. وقد رأيت في مركز سرانا إثنان من تلك الرشاشات أحدهما مدفع دوشكا ذو أربعة سبطانات من صناعة الصين، ومدفع رشاش آخر زيكوياك وهو صناعة صينية أيضا .

أما المدفع البلجيكي القديم الذي كانت تنحشر فيه الطلقات فلم أعد أراه، بل أن العديد من الرجال الذين قابلتهم في العالم الأول لم يعد لهم وجود فقد لاقوا الله شهداء. غير أن وجوها جديدة في صفوف المجاهدين بعضهم شباب دون العشرين من العمر قد ظهروا في الجبهات والصفوف الأولى. سألت عن المدافع التي تقصف جرديز فأخبرني أنها مدفعان فقط أحدهما مدفع ميدان(أوبوس) عيار 122مم  والآخر مدفع جبلي عيار 76مم . وكلاهما من الغنائم وكذلك قذائفهما.

 

الضابط رشيد:

تشغيل المدافع يقوم به ضابط باكستاني متطوع، يشارك المجاهدين في عمليات أخرى مثل التدريب على المدافع أو الهجوم على المواقع. أما عن قصة ذلك الضابط ـ واسمه رشيد ـ قال حقاني إنه ذات يوم بينما هو في ميرانشاه  يتهيأ لعبور الحدود إلي أفغانستان أخبره بعض رجاله أنهم شاهدوا شابين باكستانيين أحدهما يقول أنه ضابط في الجيش بينما هما يساومان البائع  في أحد دكاكين الأسلحة، لشراء بندقيتين لهما ويطالبان بتخفيض السعر لأنهم مجاهدان في سبيل الله. أرسل حقاني رجاله لاستدعاء الرجلين وتعرف عليهما، إنهما الرائد (رشيد) وابن أخته (وحيد) وهو شاب في المرحلة الثانوية. قدم  رشيد نفسه إلى حقاني على اعتبار أنه رائد سابق في الجيش الباكستاني استقال مؤخرا من الخدمة لرغبته الالتحاق بالمجاهدين، لأنه يرى أنه يخدم بذلك باكستان ويدافع عنها أكثر من بقائه ضابطا في الخدمة وبعيدًا عما يحدث في أفغانستان، وأن السوفييت إذا لم يتم إيقافهم في أفغانستان فلن يستطيع أحد إيقافهم بعد ذلك، وأن باكستان سوف تضيع لا محالة.

تعرفت على رشيد بعد ذلك، فقد رحلت إليه في جبال (ساتي كندو). تحدثنا كثيرا وأعتقد أننا أصبحنا أصدقاء. وكان من أكثر من استفدت بمعرفتهم خلال سنوات الحرب. فقد ساعدتني نقاشاتي معه في تبين الكثير من أساسيات الموقف العسكري والسياسي للحرب الأفغانية.

كان موقف القوات الشيوعية واضح الحرج وشعر الأهالي بذلك فارتفعت المعنويات وزاد عدد المتطوعين في مراكز المجاهدين. أما حقاني فقد خطر له الهجوم على جرديز والاستيلاء عليها وقد صارح رشيد بذلك الخاطر.

والعجيب أن رشيد أيده في ذلك، ولكنه طلب أن يضع حقاني تحت إمرته ثلاثمائة مجاهد. (القوة الضاربة التي اقتحمت خوست عام 1991 كان عددها ثلاثة آلاف مجاهد تقريبا حسب تقديري وقتها).. وأخبرني رشيد أن برنامجه للقصف المدفعي هو تمهيد لذلك الهجوم.

والهدف من القصف هو إضعاف دفاعات العدو ومعنوياته. لم يخامرني شك وقتها بأن حقاني لو حاول فسوف ينجح . ويرجع ذلك الاعتقاد إلى قلة خبرتي من ناحية وارتفاع معنوياتي بشكل كبير من ناحية ثانية، ثم انتصارات المجاهدين ضد الجيش الحكومي من جهة ثالثة، وأخيرا ثقتي في جلال الدين ورجاله المؤمنين الشجعان. فكرة الهجوم على جرديز في ذلك الوقت كانت سابقة جدا لأوانها، والغريب إنها خطرت على ذهن حقاني في ذلك الوقت والجيش السوفييتي مازال طازجا لم تستنزف قواه أو معنوياته وغريب أيضا أن يوافق رشيد على رأيه، وهو الضابط المحترف. على أية حال لم تنفذ الفكرة وأستبدلت بالهجوم على (تعمير) وهي قرية حديثة تستخدم لإدارة منقطة واسعة والإشراف عليها وعسكريا، وهي في الطرف الجنوبى الغربي لجرديزعلى بعد حوالي عشرة كيلومترا ويخترقها الطريق الرئيسي الواصل بين جرديز وغزني .

كان هجوم تعمير ناجحا للغاية وقلب الكثير من المفاهيم كما سيأتي شرحه. ولكن نعود إلى فكرة الهجوم علي جرديز لكون ذلك معلم من معالم التفكير العسكري لجلال الدين حقاني، الرجل الأهم في  باكتيا حتى نهاية الحرب، وامتدادا لتقاليد الأبطال من مقاتلي قبائل البشتون. فقد كان للبطولة والشجاعة عند حقاني مكانة عالية جدا. فالهجوم مهما كانت المخاطر، والثبات أمام العدو مهما كانت العواقب كانت مفاهيم قوية في ذهنيته العسكرية. الشجاعة في الهجوم، والثبات في الدفاع صفات جيدة بلا شك إذا استخدمت في مكانها الصحيح. وهو ما يفعله قائد ناجح مثل جلال الدين. وبالنسبة للتعامل مع الجيوش الحديثة وأسلحتها الجديدة. تطبيق مثل تلك المفاهيم ـ من جانب قائد لحرب العصابات ـ يحتاج إلى كثير من الحرص حتى تعطي تلك المفاهيم نتائج إيجابية ولا تتحول إلى العكس. فالهجوم الشجاع بدون خوف قد يكون مفيدا للغاية، وقد يكون مدمراً وذو عواقب وخيمة على صاحبه. والدفاع المستميت قد يكون مفيدا مهما بذل فيه من تضحية، وقد يكون وبالا وسببا في هزيمة قاتلة.

لقد تعلم المجاهدون الأفغان كثيرا من تجاربهم. وكذلك حقاني من خلال الصواب والخطأ. تعلم الكثير وامتلك ميزانًا صحيحًا لتقدير الأمور. وبالطبع كان هناك ثمنًا لتلك المعرفة،  ثمنًا من  الدماء قبل أي شيء آخر. مع هذا ظلت تقاليد أبطال البشتون حية في ذهنه وسلوكه، وكذلك كان معظم القادة الممتازين في أفغانستان .

 

حقانى يتخطى القواعد العامة لحروب العصابات، وصولا إلى القوانين الخاصة بالحرب في باكتيا:

كان لجلال الدين قرارا خطيرا ــ مخالفا لمبادئ حرب العصابات ــ حين قرر الدفاع عن مكتسباته من الأرض وعدم الانسحاب والبدء من (الصفر) حتی لا تدمره  القوات الروسية.

كما أشار عليه بذلك الرأي الرائد (جولزراك) الذي كان مساعدا عسكريا له ـ وهو من نفس القبيلة ومدرس سابق في الأكاديمية العسكرية في كابل ـ كانت تلك المشورة في عشية استيلاء السوفييت على كابل. ومشورة جولزراك صحيحة فنيا وأكاديميا. ولكن وجهة نظر حقاني كانت الأكثر صحة بالنسبة للواقع الأفغاني. وقد كانت مبررات رفضه لمقترحات جولزراك كما أخبرني بعد ذلك هي كالتالي: أ ـ إن فك مجموعاتنا القتالية الكبيرة وإخفاء أسلحتنا الثقيلة في مخابئ سرية، والعودة إلى أسلوبنا الأول في الضرب والاختفاء كان سيحرمنا من مكتسبات عامين من القتال. ولم يكن مقاتلينا ليتحملوا تلك النكسة وكانت تعني بالنسبة لهم الهزيمة والاستسلام للعدو. وما كانوا لينهضوا بعدها للقتال. وهذه نقطة هامة بالنسبة لمعرفة القائد لنفسيات مقاتليه.

فالانسحاب الواسع كان سيؤدي إلى هزيمة معنوية واستسلام للعدو. إذن في هذه الحالة يكون خيار القتال هو الأصوب حتى لو حمل في  طياته مخاطرا الإبادة . هكذا فكر حقاني وكان مصيبا تماما. ونستنتج من ذلك أن قواعد الحرب وقوانينها ليست مقدسة بل يمكن تعديلها أو تخطيها بل يكون ذلك واجبا في بعض الحالات الخاصة، كالحالة التي نحن بصددها الآن.

ولايمكن سوى للقائد الفذ أن يستنتج “قوانين الحرب الخاصة” والتي تتعلق بأوضاع غير عادية فى أحد الحروب، كما فعل حقاني في هذه الحالة. لا بد من الاعتراف أن العديد من القادة الأفغان المقاتلين قد طوروا قوانين الحرب بما يناسب “الحالة الأفغانية” من حيث طبيعة الشعب فكريا ونفسيا وسلوكيا. وكان العديد من هذه التطويرات عبقريا، وبعضه الآخر أدى إلى كوارث لأنه  كان خاطئا. وعلى وجه العموم ظل الأفغان يقاتلون (بطريقتهم الخاصة) طوال مدة الحرب، لذلك كان عسيرا جدا على غير الأفغان من المتطوعين ـ عرب أو غيرهم ـ أن يتواءم  مع الطريقة القتالية للأفغان التي لا يمكن استساغتها أو مجاراتها في معظم الأحوال. من أجل ذلك لجأ العرب في مراحل متأخرة إلى تكوين مجموعات قتالية خاصة، تقاتل بالتعاون مع مجموعات أفغانية، وفي أحيان قليلة قاتلوا منفردين. ب ـ أضاف حقاني، دفاعا عن قراره، قائلا: إن الانسحاب مرة أخرى إلى أعماق الجبال ـ كما  بدأنا أول مرة ـ  كان سيتيح للسوفييت فرصة الاستيلاء السهل على الطرق الرئيسية التي تخترق مناطقنا صوب حدود باكستان. وبالتالي سوف يقطعون خطوط إمدادنا ويعرقلون حركتنا، ويسيطرون بسهولة على التجمعات السكانية التي سوف تكون أسيرة لديهم، حتى أولئك الذين  تحرروا في السنتين الماضيتين.

فإذا تحقق للسوفييت ذلك فسوف يطاردوننا في الجبال ويتصيدوننا واحدا واحدا كما تصاد الوحوش البرية. إن قرار البدء مجددا من الصفر في حرب عصابات بدائية كان سيقودنا إلي هزيمة سريعة بلا مقاومة. بينما رجال القبائل أصحاب الغيرة على الدين والأعراض كانوا سيقاتلون  باستمرار ضد السوفييت إذا نحن ثبتنا في أماكننا للدفاع .

وهذا بالضبط ما حدث فنجحنا بذلك فی إحباط المجهود العسكري السوفييتي في مناطقنا. حتى أن وضع السوفييت حاليا (1981م) أضعف من موقف الجيش الشيوعي قبل تدخل السوفييت.

ــ  هذا وسوف نمر في سردنا خلال هذا الكتاب علی التجاوزات الخلاقة لقوانين الحرب، والتي كانت بحثا ملهما عن (القوانين الخاصة) للحرب على الساحة الأفغانية، وهو ما تحتاج إليه كل حرب عصابات ناجحة. وهي مهمة القيادة وكوادرها العاملة،  وكل من له بصيرة في القتال. ــ إن الدفاع حتى الموت عن مكتسبات المجاهدين في باكتيا والنجاح في ذلك عام(1980م) ــ ثم القرار الطموح للغاية بالهجوم على جرديز (1981م) دليل على ترسخ أسلوب قتالي لدى القادة الأفغان البارزين خاصة حالة حقاني التي نحن بصددها.

وسبب تفصيلنا في هذه النقطة هو إدعاءات وردت في كتاب فخ الدب الذي سبقت الإشارة إليه ـ وهو كتاب خاضع لوجهات نظر صاحبه كضابط مخابرات سابق ـ وهو لم يكن يوما، ولن يستطيع، أن يكون مجاهدا يخوض حرب عصابات عقائدية ضد عدو ساحق التفوق. فقد كان العقيد محمد يوسف مجرد العبد المأمور تحت إدارة قائده الجنرال أختر عبد الرحمن رئيس جهاز الاستخبارات الباكستانية(ISI) الذي كان بدوره عبد المأمور تحت إمره رئيسه الجنرال ضياء الحق رئيس الدولة، ويمكن أن نسترسل إلى حلقه أعلى لنقول أن ضياء الحق كان أيضاً عبد المأمور لدى الولايات المتحدة، وإن كان كما ذكرنا ـ عبدا على وشك التمرد ـ وقد دفع ثمن تمرده، إذ دمره الأمريكان في طائرته مع أختر عبد الرحمن وغيرهم من كبار ضباط باكستان وحتى مع السفير الأمريكي نفسه.

ـــ    لقد ادعى محمد يوسف في كتابه أنه كان صاحب فكرة الدفاع الثابت عن منطقة (علي خيل) في جاجي (معرکة 1987م) ، وعن قاعدة جاور التابعة لحقاني (معرکة 1986م). والادعاءات نابعة من الغرور والتعالي الذي يميز رجال الاستخبارات خاصة أولئك الذين قاموا بمهام كبيرة في يوم ما. وادعى العميد أنه خالف بذلك القواعد التقليدية لحرب العصابات فتعرض لانتقادات مرؤوسيه. سنتعرض لاحقا لحالتي “جاور” و”جاجي” ، وكيف أن الأسباب الحقيقية للدفاع الثابت عنهما تعود في الحالة الأولى إلى حقاني شخصيا وأسلوبه القتالي، وملابسات القتال في باكتيا والعوامل الشخصية والقبلية فيه.

أما في حالة جاجي والقتال الثابت عنها فالذي يقف خلفها هو شخص عربي هذه المرة، وتلك ظاهرة نادرة وفريدة في الحرب الأفغانية، ذلك الشخص هوأسامة بن لادن. وسوف نتعرض بشيء من التفصيل للحالتين لكونهما من معالم الحرب الأفغانية وأغناها بالدروس المستفادة. وكما أن مكتسبات الجهاد الأفغاني سقطت في أيدي غير إسلامية، كذلك كل الميزات العسكرية التي حدثت، تحاول تلك الأطراف أن تنسبها إلى نفسها . فالأمريكان ينسبون النصر إلى أنفسهم وأموالهم وصاروخهم العجيب (ستنجر) وحتى إلى البغال الأمريكية التي أرسلوها كي تحل مشاكل اللوجستيك لدى المجاهدين!!. أما خدمهم من الباكستانيين فادعوا بأنهم هم الذين خططوا ودربوا وقادوا . ولم يتركوا للأفغان سوى التنفيذ الذي كان مليئا بالسوءات كما يدعى كتاب فخ الدب.

 

{ فى مسألة إبداع وابتكار القوانين الخاصة للحرب، خَلَفَ “سراج الدين” والده حقاني في الجهاد ضد الاحتلال الأمريكي، كرئيس للجهاز العسكري لحركة طالبان . فأضاف إلى ميراث والده في فنون ذلك العلم ما يتناسب مع التطورات التكنولوجية والقتالية والاستخبارية لدى المحتل الأمريكي، الذي جعل من الحرب المسلحة واحدا ضمن مجموعة حروب مجتمعة يخوضها في نفس الوقت على نفس الساحة. يضاف إلى ذلك التطور الهائل والنوعي في الأسلحة، خاصة في سلاح الطيران والطائرات بدون طيار، والذخائر الموجهة، و مناظير الرؤية الليلية. فأصبح على حرب العصابات المطلوبة للمواجهة أن تتمتع بدرجة أعلى من التعقيد، وعلى ابتكارات أعمق وأشمل مما كان موجودًا في الجهاد السابق ضد السوفييت. وإلى جانب سراج الدين حقاني، وهو الرمز الأكبر في المرحلة الراهنة، كما كان والده في المرحلة السابقة، هناك عشرات بل مئات من القيادات الشابة الموهوبة من حركة طالبان، الذين حشروا أقوى جيوش الأرض في زاوية الهزيمة والعجز حتى عن الفرار}.

 

حقاني المهندس الأول للطرق الجبلية :

الطريق الذي شقه حقاني لعبور (الحائط الجبلي) خلف مركزنا في “ساتي كندو” كان هو الآخر من الإنجازات التي لا يلتفت إليها كثيرون . وكان أول طريق”غير قانوني” شقه المجاهدون لخدمة العمليات. وأمثال تلك الطرق أدت دورا حيويا في عمليات المجاهدين، وكان ذلك  ظاهرا للغاية في ولاية باكتيا . وقد برع حقاني في ذلك النوع من (الهندسة). وكنت أعتبره أكبر (مهندس في باكتيا). ليست المسألة مجرد براعة فنية، حيث أن المعدات الحديثة لشق الطرق لم تظهر إلا في وقت متأخر جدا.

وشق طريق في مثل تلك الجبال الوعرة ليس فنيا بالشيء السهل. والأهم من ذلك اختيار مكان الطريق وخط سيره بحيث يلبي عدة متطلبات في آن واحد. أهمها بالطبع خدمة أكبر عدد من الأهداف العسكرية، ومنها عدم اكتشافه من قبل مراكزالعدو الأرضية، وإذا كانت المنطقة مأهولة نسبيا فإن موافقة السكان القريبين من الطريق تعتبر ضرورية. وقد تستدعي الموافقة دفع بعض الأموال للأهالي أو الانحراف بالطريق بعيدا عن قراهم، أو مجرد إقناعهم بأهمية الطريق للمجاهدين. والسبب هو أن التجربة أثبتت أن الطريق مهما كان بدائيا فإنه يعتبرهدفا لهجوم الطائرات.

والقرى التي يخترقها أو يمر قريبا منها تعتبر هي الأخرى أهدافا محتملة. لقد أهدر الطيران الشيوعي آلاف  الأطنان من القنابل على أمثال تلك الطرق بدون أي نتيجة ملموسة، لأن إصلاح الطريق أو الإنحراف قليلا إلى أحد الأجناب ـ بعيدا عن حفر القنابل ـ ليس بالشيء العسير، حتى أن بعض الحفر الضخمة للقنابل كانت تدفن بلا مجهود بواسطة الرمال والصخور التي تحملها مياه السيول والأمطار.

والملاحظ أنه لم تكن هناك انتصارات كبيرة خاصة في مرحلة العمليات المتوسطة والكبيرة بدون وجود شبكة طرق مناسبة من ذلك الطراز (غير القانوني) . هناك ملاحظة الارتباط المتبادل بين كثافة العمليات وكثافة شبكة الطرق (غير القانونية) وهو ارتباط جدير بالتأمل. فقد تؤدي شبكة طرق من هذا النوع إلى إعطاء أهمية عسكرية لمنطقة لم تكن مهمة سابقا، والعكس أيضا صحيح، فقد تتحول منطقة هامة جدا عسكريا إلى منطقة خاملة لعدم وجود طرق مناسبة بها. بل إن كثافة شبكة الطرق تؤثر في التخطيط الإستراتيجي للعمليات. فقد كان ملاحظا في معركة فتح خوست أن وجود شبكة طرق جيدة في القطاع الجنوبي من الجبال(منطقة باري) قد فرض على مُخطِطْ عمليات  الهجوم ـ جلال الدين حقاني ـ أن يرتكز على ذلك القطاع في عملية الهجوم الرئيسي على المدينة. بالطبع لم تكن شبكة الطرق هي الاعتبار الوحيد. ولكنها من أهم تلك الاعتبارات التي جعلت باري منطلقا للهجوم الأخير والناجح على خوست.

 

 معالم جديدة في موقعنا القديم:

 

نعود إلى الطريق غير القانوني الذي كان يربط مركزنا بالعالم الخلفي، من حيث يجيء متخطيا الحائط الجبلي الرهيب. ذلك الطريق لم يجعل الإمدادات أمرا سهلا فحسب بل جعل المناورة بتحريك المدفعية أمرا ممكنا ومذهلا للعدو بحيث كان في كل مرة تحدث له مفاجأة جديدة، من حيث مكان الرماية ومن حيث التوقيت.

فشلت مدفعيات العدو ورماياته الكثيفة في أن تنال من مدافع المجاهدين. كذلك فشلت عدة محاولات للطيران، حتى أنه لم ينجح في مجرد تحديد أماكن اختفائها. ولكنه تمكن أخيرًا  من إرسال بعض الجواسيس حددوا له مكان المدفع بدقة، وكان يوما غير سعيد . ويمكن تخيل ما حدث لنا في ذلك اليوم ، ولكن بفضل الله لم يصب أحد ولكن مدفعنا الثقيل  (122مم) أصيب بعدة شظايا غير مؤثرة ولكنها خدشت كرامته فتوقف برنامجه لعدة أسابيع، استخدم خلالها الهاون غرناي (120مم) والمدفع الجبلي (76مم) وكلاهما أيسر نسبيا من حيث المناورة خاصة المدفع الجبلي ذو العجلات الكاوتشية الذي يمكن قطره بسيارة بيكاب وحتى يمكن دفعه بواسطة الأفراد.

أما الغرناي فما زلت أعتبره من أغبى الأسلحة التي يمكن أن يستخدمها رجال حرب عصابات. ولم تستخلص تلك النتيجة في أفغانستان فقط، بل في تجارب أخرى أيضا. ولما كان ذلك المركز يعتبر الأهم والأقوى في باكتيا كلها فسوف أعدد أهم الأسلحة ـ الجديدة ـ التي وجدتها فيه مقارنة بما كان موجودا في العام 1979م.

أولا: المدفعية : – مدفع واحد أوبوس عيام 122مم روسي الصنع من الغنائم. – مدفع واحد جبلي عيار 76مم روسي الصنع من الغنائم. – مدفع عديم الارتداد عيار 82مم صيني الصنع. – هاون غراناي عيار 120مم مصري الصنع. ثانيا: المضادات الجوية: – عدد 2صاروخ أرض جو “سا م 7″من مصر . هذا بالإضافة إلى عدد من بنادق كلاشنكوف مصرية وصينية، بحيث أصبحت البنادق الإنجزية القديمة من طراز (لي انفيلد) قليلة التواجد في الأيدي نسبيا. ولم تكن الدفاعات الجوية تحتوي إضافة إلى صاروخي “سام” إلا على رشاش دوشكا عيار 12.7مم روسي الصنع كثير الأعطال أيضا وكالعادة. أما هاون عيار82مم الذي كان نجم 1979م في نفس المنطقة فلم أشاهده ويبدو أنه أصيب .

كان في المركز حوالي أربعين مجاهدا، وكنا في شهر شعبان ، لذلك كان العدد مرشح الانخفاض وهذا ما حدث فعلا. وقد هاجم العدو مركزنا هجوما كبيرا في اليوم الثالث من رمضان وكان هدفه الأول تدمير المدافع وهدفه الثاني دفعنا إلى الخلف لتأمين المدينة.  ولكنه أخفق في كلا الهدفين.

 

صاروخ  سام7 تلميذ بليد:

ولكننا أيضا أخفقنا في إصابة إحدى طائرات العدو المروحية بواسطة صاروخ سام7 . والأرجح أن سام هو الذي أخفق، فقد تمت الرماية في ظروف مثالية ومسافة مناسبة تمامًا ضد طائرة هيلوكبتر(مي ـ24) ومر الصارخ على بعد عشرة أمتار من ذيل الطائرة  بدون أن يبذل أدنى مجهود لمتابعتها ـ والأرجح أن جهاز الصاروخ للبحث الحراري لم يكن يعمل ـ وفي الواقع أن معظم صواريخ سام التي أرسلت إلى أفغانستان كانت تعاني من نفس العيب. كون تلك الصواريخ قديمة ومخزنة منذ فترة طويلة، والأجهزة الدقيقة داخل الصاروخ/ الباحثة عن الحرارة/ تتلف بعد مدة محدودة.

وعلى أية حال فإن صواريخ سام أوحت إلى المجاهدين بفكرة عبقرية وهي استخدام القاذف المضاد للدروع (RPG7 ) ضد الطائرات الهيلوكبتر بوجه خاص. وكانت النتائج ناجحة جدا فقد أخافت تلك القذائف الطيارين، وأحرزت نفس نسبة إصابات صواريخ (سام7).. فلم تسقط أي طائرة .{ نجاح صاروخ سام7 كان نادرا طوال الحرب ، وبالمثل قاذفRPG7 ضد الهيلوكبتر المتحركة }.

 

معركة من المتحف التاريخي للحروب الأفغانية :

كانت الحملة العسكرية ضد مركزنا من الطراز التقليدي، واستغرقت نهارا واحد من بعد صلاة الفجر إلى قرب المغرب. بدأت بالقصف المدفعي الشديد على مركزنا وعلى المناطق التي سوف تحتلها القوة في بداية المعركة. وفي العاشرة صباحا بدأت أفواج من سكان القرى تأتي للمساعدة في صد القوات الحكومية. وكان منظرا مؤثرا للغاية. فقد سمعوا قصف المدفعية الشديد وفهموا ـ بالتجربة ـ أنه هجوم واسع . فحضروا مع بنادقهم القديمة يسألون عن مكان العدو كي يتوجهوا إليه. وكان مقاتلوا كل قرية يتوجهون في كتلة واحدة صوب المكان المحدد. سكان بعض القرى جاؤا بالطبول يقرعونها  بقوة ويلوحون بالبنادق القديمة .

كانت صورة تاريخية للحروب الأفغانية القديمة محفوظة في المتحف التاريخي لأفغانستان. كان تعداد مركزنا قد إنخفض قبل الهجوم بسبب مغادرة المجاهدين إلى قراهم،  حسب تقاليدهم الثابتة ، فانخفض عددنا إلى أقل من النصف. ولكن عند الظهر كان عددنا أكبر من مقداره الأصلي. كثيرون أخذوا مواقع أمامية للدفاع عن مركزنا ولم  نكن نعرف أكثرهم ، ولكن جميعهم كانوا من مناطق الجوار . كان مشهدا مؤثرا للغاية، وغنيا بالدلالات ولم أشهد مثله أبدا بعد ذلك.  بل شاهدت عكسه تماما في عام 1990م عندما توافد الناس من باكستان لنهب المدن المفتوحة وقد ظنوا وقتها أن خوست على وشك الفتح . فجاءوا في عشرات من السيارات ومئات أو آلاف من البشر ولحسن الحظ فإن المدينة لم تفتح وقتها . لم يقتل أو يجرح أحد من أفراد مركزنا ـ ولكن بعض سكان القرى جرحوا .