من أخلاق المجاهد العدل أساس الحكومة الإسلامية الصالحة

بقلم: أبي طلحة   إن العدل من الصفات النبيلة التي جعل الله عليها قوام المجتمع وصيانته من التردي والانحطاط، فبالعدل يرتدع الفاسد ويجازى المسئ ويعاقب المجرم, ويقضى على الفساد في البر والبحر, ويشاع الأمن والإطمئنان, ويعم السلام والإستقرار, وينتشر الخير في كل أرجاء البلاد, وتبنى البلدان وتزدهروتتطور, وهو الأصل والأساس في وضع النظم والتشريعات الحاكمة […]

بقلم: أبي طلحة

 

mujahid

إن العدل من الصفات النبيلة التي جعل الله عليها قوام المجتمع وصيانته من التردي والانحطاط، فبالعدل يرتدع الفاسد ويجازى المسئ ويعاقب المجرم, ويقضى على الفساد في البر والبحر, ويشاع الأمن والإطمئنان, ويعم السلام والإستقرار, وينتشر الخير في كل أرجاء البلاد, وتبنى البلدان وتزدهروتتطور, وهو الأصل والأساس في وضع النظم والتشريعات الحاكمة لجميع أحوالهم في معاملاتهم وشئون حياتهم. لذلك جاءت تأكيدات ربانية ونبوية كثيرة على التحلي بصفة العدل في جميع مجالات الحياة الفردية والاجتماعية، وقد جاء التنويه بالعدل في القرآن في غير موضع وفي صور مختلفة، إلى حد أنه جعل العدل فريضة للمجتمع، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90]. بل قد أمر الله بالعدل مع العدوِّ مع شدَّة كراهيتنا لأفعاله، فقال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]. فالعدل يعيد الأمور إلى نصابها، وبه تؤدى الحقوق لأصحابها، وما اتصف به قوم إلا خلدوا وسعدوا، وما انتزع من قوم إلا شقوا وطوي بساطهم، وأصبحوا عاراً على المجتمع وعلى التاريخ. التأكيد النبوي والقرآني على العدل: ونظرا إلى أهمية العدل وحاجة المجتمعات والشعوب إليه، جاءت تأكيدات قرآنية ونبوية كثيرة في القرآن الكريم، تحث على التحلي بهذه الصفة وتحذر من إهمال هذه القضية الأهم في الحياة، وإليك شيئاً من الآيات القرآنية الحاثة على التحلي بصفة العدل؛ فقد أمر القرآن على الاتصاف بالعدل في غير موضوع، ومعلوم عند الأصوليين أن الأمر للوجوب، (يا أيها الذين آمنوا كونوا قَوّامين بالقِسط..) (النساء/135). (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به..) (النساء/58). وفي موضع يحذرالقرأن من مغبة الانحراف عن جادة العدل: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) (المائدة/8). (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء/135). وفي موضع آخر يمدح الأمم التي أقامت العدل في حياتها واستقامت عليه: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) (الأعراف/181). بل قد يجعل القرآن مدار النجاة والحياة في هذه الدنيا بالعدل، ويؤكد أن أسباب هلاك الأمم السابقة هو بالظلم والإعراض عن العدل، فيقول: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات..) (يونس/13)، وآيات أخر. والأحاديث النبوية زاخرة بأمثال نماذج العدل والتحذير من ضده، نشير إلى حديث واحد يبين أهمية هذه القضية، عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا). أخرجه مسلم. نماذج العدل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم: لقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع نموذج للعدل في جميع مجالات حياته، فكانت حياته كلها عدل، عدل مع أزواجه، عدل مع رعيته، عدل مع الكفار، عدل مع ألد أعدائه، وحتى عدل مع الحيوانات، بلا إفراط ولا تفريط، بلا زيادة ولا تقصير، وكتب السيرة مليئة من أمثال نماذج العدل في حياته صلى الله عليه وسلم، ونكتفي ببعض الأمثلة هنا لضيق المقام. ولعلَّ من أشهر مواقف النبي صلى الله عليه وسلم التي ظهر فيها عدله وقوَّته في الحقِّ، ما روته السيدة عائشة -رضي الله عنها- بقولها: إن قريشًا أهمَّهم شأن المرأة المخزوميَّة التي سرقت، فقالوا: ومن يكلِّم فيها رسول الله؟ فقالوا: ومَنْ يجترئ عليه إلاَّ أسامة بن زيد حِبّ رسول الله. فكلَّمه أسامة، فقال رسول الله: “أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟!”. ثم قام فاختطب، ثم قال: “إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا”. ومن نماذج عدله مع أزواجه ما رواه أنس رضی الله عنه قال: كان النبي عند بعض نسائه، فأرسلتْ إحدى أُمَّهات المؤمنين بصحفةٍ فيها طعامٌ، فضربت التي النبي في بيتها يد الخادم فسقطت الصَّحفة فانفلقت، فجمع النبي فِلَقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطَّعام الذي كان في الصَّحفة ويقول: “غَارَتْ أُمُّكُمْ”. ثمَّ حبس الخادم حتى أُتِيَ بصحفةٍ من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرَتْ صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرَتْ. ومن روائع عدله صلى الله عليه وسلم، عدله مع الكفار، فعن الأشعث بن قيس قال: كان بيني وبين رجلٍ من اليهود أرضٌ فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إلى النَّبيِّ ، فقال لي رسول الله : “أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟” قلتُ: لا. فقال لليهوديِّ: “احْلِفْ”. قال: قلتُ: يا رسول الله، إِذًا يَحْلف ويذهب بمالي. فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} [آل عمران: 77]. نماذج من عدل الصحابة رضي الله عنهم: لقد غرس رسول الله صلى الله عليه وسلم صفة العدل في قلوب أصحابه، ودرّبهم على وجوه العدل في جميع مجالات حياتهم، كما كان هو بنفسه المثل الأعلى في تنفيذ تلك الأوامر، وإلى القراء نماذج من عدل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ـ فعن عطاء قال: “كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه بالموسم، فإذا اجتمعوا قال: أيها الناس، إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم، فما قام أحد إلا رجل واحد قام، فقال: “يا أمير المؤمنين، إنَّ عاملك فلانًا ضربني مائة سوط، قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه”، فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك ويكون سنة يأخذ بها من بعدك، فقال: أنا لا أُقيد وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه، قال: فدعنا فلنرضه، قال: دونكم فأرضوه، فافتدى منه بمائتي دينار. كل سوط بدينارين” (رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى). – وعن أنس رضي الله عنه (أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم. قال: عذتَ معَاذاً. قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو – رضي الله عنهما- يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه. فقدم فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط واضربه. فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب والله لقد ضربه ونحن نحب ضربه؛ فلما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه. ثم قال للمصري: ضَعْ على صلعة عمرو. فقال: يا أمير المؤمنين إِنّما ابنه الذي ضربني وقد استَقَدْت منه. فقال عمر لعمرو؛ مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني. رواه أبو القاسم المصري في فتـوح مصر والمغرب. ـ وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: كَانَ عُمَرُ ” يَصُومُ الدَّهْرَ ، فَكَانَ فِي زَمَانِ الرَّمَادَةِ إِذَا أَمْسَى أُتِيَ بِخُبْزٍ قَدْ ثُرِدَ بِالزَّيْتِ ، إِلَى أَنْ نَحَرُوا يَوْمًا مِنَ الأَيَّامِ جَزُورًا ، فَلَمَّا طَعِمَهَا النَّاسُ وَغَرَفُوا لَهُ طَيِّبَهَا فَأُتِيَ بِهِ ، فَإِذَا فِدْرٌ مِنْ سِنَامٍ ، وَكِبْدٌ . فَقَالَ : بَخٍ بَخٍ بِئْسَ الْوَالِي أَنَا إِنْ أَكَلْتُ طَيِّبَهَا وَأَطْعَمْتُ كَرَادِيسَهَا ، ارْفَعْ هَذِهِ وَهَاتِ لَنَا غَيْرَ هَذَا الطَّعَامِ . قَالَ : فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ ، فَجَعَلَ يَكْسِرُ بِيَدِهِ ، وَيَثْرِدُ ذَلِكَ الْخُبْزَ ، ثُمَّ قَالَ : وَيْحَكَ يَا يَرْفَأُ ، احْمِلْ هَذِهِ الْجَفْنَةِ حَتَّى تَأْتِيَ بِهَا أَهْلَ بَيْتٍ ذَكَرَهُمْ لَهُ بِثَمْغٍ فَإِنِّي لَمْ آتِهِمْ مُذْ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أَحْسَبُهُمْ مُقْفِرِينَ فَضَعْهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ “. مجالات العدل : وللعدل مجالات كثيرة نشير إلى أهمها: 1- العدل مع النفس أما العدل مع النفس فهو ألا يقصر الإنسان في حقها من حرمانها ما أحله الله وتكليفها ما لا تطيق، وكذلك أن لا يفرط في ترويحها بأن ينغمس في الشهوات والملاهي وينسى ربه ومقصده من الحياة. 2- العدل في الحكم بين المتخاصمين وهذا يتعلق بالقاضي أن لا يميل إلى أحد الطرفين إلا في إطار الشريعة والقانون بحيث لا يضيع حق أحد من الطرفين. 3- العدل بين الزوجات بحیث لا يهملها، وإن تزوج بغير واحدة فلا يفضل إحداهن على الأخرى 4- العدل بين الأبناء في النفقة 5- العدل بين الكائنات 6- العدل في الكيل والميزان فوائد العدل وآثاره: ويترتب على العدل فوائد جمّة للأفراد والجماعات واستقرار المجتمعات، وسيادة الأمن والطمأنينة والقضاء على الفوضى والظلم، من أهم هذه النتائج والفوائد: 1ـ إشاعة المحبة بين الناس. 2 ـ قوة تماسك البنيان الاجتماعي والسياسي والتفاف الجماهير حول قيادتها، حيث تسود المحبة بين الحاكم والمحكوم وبين الراعي والرعية ويعم الأمن ويعيش المجتمع كله في أمن وأمان وطمأنينة وسلام فينام الحاكم قرير العين لا يحتاج لأصواريحتمي خلفها ولا لحراس يمشون بجانبه ويسهرون على أمنه وسلامته لأنه لم يظلم أحدا ولم يقم بشيئ في حق رعيته يجعله يخشى على نفسه من الانتقام. کما شاهدنا ذلك في عصر الخلافة الراشدة. 3 ـ العدل يحمي الحقوق والممتلكات والأعراض، فيطمئن الناس على دمائهم وأعراضهم وأموالهم فيشعر الناس بالأمان والاستقرار مما يقي المجتمع من شر الاضطرابات والقلاقل التي كثيرا ما تحدث نتيجة الإحساس بالظلم والجور وعدم العدل والإنصاف. 4 ـ التحفيز على الإقبال العمل والإنتاج. 5 ـ سبب في كثرة الخيرات وتنزل البركات. عندما يكون العدل هو السائد بين الناس تكثر الخيرات ويعم الرخاء ويفيض المال وينعدم الفقر والجوع ولقد حدث في زمن خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز أن فاض المال في الأيدي حتى صار الناس يبحثون عن من يأخذ الزكاة فلا يجدونه. 6- العدل يوصل للتقوى، قال تعالى: ( اعدلواهو أقرب للتقوى) 7ـ علو المنزلة عند الله تعالى عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن -عز وجل- وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا أخرجه مسلم. 8ـ النجاة من خزي يوم القيامة، إن الذي يتولى مسؤولية أيا كانت درجة المسؤولية يوم القيامة يأتي مصفدا بالأغلال مقيدا بالسلاسل ولا يخلصه من قيده ولا يفكه من وثاقه الا العدل لما جاء في الحديث: «ما من والي عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلول يده إلى عنقه حتى يفك عنه العدل أو يوبقه الجور». لقد كان الحكام والقضاة والولاة يراعون العدل فتسود الطمأنينة والأمن في المجتمع، وأما اليوم فحدّث عن إضاعة هذه الصفة المهمة ولا حرج، لذلك أصيبت المجتمعات الحديثة بالفوضى والاضطراب وأصابها الخلل والشلل، وانهارت دعائمها، فلا تكاد ترى رجلا أو قبيلة أو مجتمعا أو حكومة تتصف بهذه الصفة. فحري بالمجاهد الذي رفع راية الحق ونهض ليتم حجة الله على الأرض ويسوق البشرية إلى تلك الرسالة التي جاء بها سيد الكون وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، أن يتحلى بهذه الصفة في عصر متخم بالظلم والجور وإضاعة الحقوق.