طالبان ووفاة الملا محمد عمر.. دروس ووقفات

رحيل القادة الكبار يدفعنا إلى مراجعات في مسيرتهم ومسيرتنا، هذه المراجعات النقدية مبنية على النصح واستلهام العبر، فالمثل التنزاني يقول: «للحرباء عينان، عين تنظر إلى الماضي وأخرى تُبصر المستقبل»، فالسياسة هي فن التوقع والتبصر، يُعلن اليوم عن رحيل شخصية كبيرة في تأثيرها المكاني والزماني، فالألقاب تنزل من السماء كما قيل، ولكن بقدر تأثيرها، يبرز غموضها […]

رحيل القادة الكبار يدفعنا إلى مراجعات في مسيرتهم ومسيرتنا، هذه المراجعات النقدية مبنية على النصح واستلهام العبر، فالمثل التنزاني يقول: «للحرباء عينان، عين تنظر إلى الماضي وأخرى تُبصر المستقبل»، فالسياسة هي فن التوقع والتبصر، يُعلن اليوم عن رحيل شخصية كبيرة في تأثيرها المكاني والزماني، فالألقاب تنزل من السماء كما قيل، ولكن بقدر تأثيرها، يبرز غموضها في البدايات والنهايات.
يرحل الملا عمر زعيم حركة طالبان أفغانستان -رحمه الله- تاركاً خلفه بصمات لا تخطئها العين، وإن لم يسبر غورها اليوم، فسيأتي اليوم الذي تُوفَّى حقها، لاسيَّما القرار الذي ألقى بظلاله على العالم الإسلامي كله وهو حماية زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن ورفضه تسليمه وتحديه لتحالف دولي من 50 دولة قاتلها عسكرياً، وعالم برمته قاتله أمنياً واستخباراتياً، من هنا تبرز أهمية هذه المراجعة، وباعتقادي فلكوني التقيت الملا محمد عمر، والتقيت وعايشت كبار قادة طالبان أفغانستان، فإن سبر تلك المرحلة واستلهام دروسها في الشام والعراق واليمن؛ حيث الملاحم اليومية التي يسطرها أبناء الأمة ضد غزو متعدد الجنسيات أمر في غاية الأهمية.
هنا لا بد من وقفات مفصلية أثّرت على التاريخ الأفغاني وغيره، وتؤثر على العمل الثوري الجهادي في تلك البلدان الملتهبة الحاملة لإرث الجهاد الأفغاني بمسيرته الطويلة، فكما قال سفيان بن عيينة -رحمه الله-: «إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر المؤمن، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق»:
1- نجح الملا محمد عمر في نقل الجهاد الأفغاني من جهاد الفصائل والحزبية الضيقة، إلى جهاد الأمة، فكانت لحظة تاريخية مفصلية، سما فيها على الحزبية الطالبانية، فدعا كبار علماء أفغانستان ووجهاءها لتشكيل مجلس علمائي قبلي يسترشد بآرائه فاختاره أميراً، كان عاملاً بنصيحة ابن مسعود رضي الله عنه: «لا يزال الناس بخير ما أخذوا عن أكابرهم وأمنائهم وعلمائهم، فإذا أخذوا من صغارهم وشرارهم هلكوا»، واستقطب الملا بحنكته عديداً من النخب الأفغانية، ببعده عن آفة التكفير والتخوين والعمالة، حتى ممن كان يقاتلهم، فكان مُقلاً في الحديث، فنجح في إحداث نقلة نوعية يدركها كل من عايش تلك الفترة وما بعدها حين نقل جهاده من الحزبية إلى الأمة الأفغانية؛ فوسّع حاضنته الاجتماعية مدركاً تماماً أن السؤدد مع السواد، لا بالتعالي والتكبر عليه، ولا أزال أذكر حين كانت قواته تدخل كابل وهو يصلي طوال الليل داعياً أن تُفتح بلا قطرة دم كما أخبرني من أثق به.
2- المرونة التي ظهرت في التعاطي مع خصومه الأفغان قتالا وتحييداً ونصحاً واستمالة، ساعده في ذلك قدرته على جمع معظم علماء أفغانستان المعتبرين ممن يثق بهم الشعب، بالإضافة إلى وجود كبار قادة المجاهدين المعروفين أصلاً وفصلاً في مناطقهم وقبائلهم، أما على صعيد العلاقات الدولية فقد كان مرناً للغاية تجلى ذلك بعلاقته مع باكستان ومفاوضاته مع إيران والعالم العربي، وأميركا وأوروبا، وحتى حين أُسقطت حكومته على يد التحالف الدولي بدعم باكستاني، أحجم عن نقدها للمصلحة، فقد كان يدرك تماماً أنه بنقده لها كان كمن يطلق النار على رجليه، فباكستان عمقه الاستراتيجي والبشري والمالي والشرعي بوجود المدارس الدينية، بالمقابل لم يُضف الشرعية حتى على طالبان باكستان كي لا يضر بمشروعه الأفغاني، كون كُلفته الإقليمية والدولية أقل، بالإضافة إلى أنه لن يُحمّل الشعب الأفغاني المكلوم على مدى عقود أكثر مما يحتمل فيكفر به وبمشروعه.
3- التعامل مع المهاجرين، الظاهر أن الملا محمد عمر سار على نهج المجاهدين الأفغان في ضبط حركة المهاجرين القادمين لمساعدته، فلم يكن لهم تجمعات خاصة بهم يقاتلون منفردين، فكان قتالهم ضمن جبهات وخطط المجاهدين، وطوّر الملا الأمر حين شكل إدارة أفغانية للتعامل معهم وفقاً لمشروعه المحلي، ولم يجد فيها المهاجرون غضاضة، فلم يُشاركهم في حكمه، ولذا لم نر أي مهاجر تصدّر للقضاء الأفغاني أو لمصالح الشعب الأفغاني العامة حتى لا يثير حساسيات، وهو ما حفظ لهم كرامتهم وحفظ لهم احترامهم لدى الشعب الأفغاني، وظل الأخير يذكرهم بخير حتى الآن وتحديداً المهاجرين العرب والمسلمين الذين قضوا قبل فترة الإمارة الإسلامية لأفغانستان.
4- نجح الملا عمر في التخفي لاثني عشر عاماً، يتواصل فيها مع قادته وجنده بطريقة ذكية، لم يُعهد عليه توترٌ أو عصبيةٌ في خطاباته ينال فيها من تنظيم أو دولة شعاره «قل هو من عند أنفسكم»، ورغم رحيله الغامض فإن الحركة الطالبانية التي تعيش حالة من الانقسام والتشتت بعد رفض بعض قادتها تعيين منصور اختر خليفة له، وسيُذكر الملا بقدرته الرهيبة على ضبط الحركة إدارياً وشرعياً طوال الفترة السرية فعصمها من الانشقاقات والتحزبات.
التحدي الآن أمام القيادة الطالبانية الجديدة في البناء على هذا الإرث العمري، تماماً كما هو التحدي أمام ثوار الشام والعراق واليمن في استلهام هذه الدروس والتأسيس عليها، متحاشين مقولة: «حين يختفي شجر السرو من مكانه، يحتل العشب موضع السرو الشاهق».
لسنا وإن أحسابُنا كرُمت * يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا * تبني ونفعل مثل ما فعلوا