الجهاد يضمحل بالإفراط والتفريط

  إن الجهاد للدين كالروح للجسد، وهو سبيل وحيدٌ لاستعادة العز والكرامة للمسلمين، ومنهج فريد لإقامة دولة إسلامية على أراضي المسلمين، وهو من أعظم العبادات وأجل الطاعات، كيف لا؟ وقد سمَاه النبي صلى الله عليه وسلم (ذروة سنام الإسلام)، وإن دين الله لا يمكن أن يقوم في الأرض ولا يمكن لشجرته أن تستوي على ساقها […]

 

إن الجهاد للدين كالروح للجسد، وهو سبيل وحيدٌ لاستعادة العز والكرامة للمسلمين، ومنهج فريد لإقامة دولة إسلامية على أراضي المسلمين، وهو من أعظم العبادات وأجل الطاعات، كيف لا؟ وقد سمَاه النبي صلى الله عليه وسلم (ذروة سنام الإسلام)، وإن دين الله لا يمكن أن يقوم في الأرض ولا يمكن لشجرته أن تستوي على ساقها ولا أن تستقر بجذورها في الأعماق ولا أن ترسل بثمارها في الآفاق إلا بالجهاد في سبيل الله.  لكن لا تُجْنى الثمار ولا تُثمر الجهود في هذا المجال إلا إذا خلى من الإفراط والتفريط.

من منن الله عز وجل على هذه الأمة أنه جعلها أمة واحدة، وخصَّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح السبل، فالاعتدال مزية كبيرة وفضيلة عظمى، وقد أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم باتباع النهج المعتدل وسلوك الطريق الأوسط، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخطَ خطا، و خطَ خطين عن يمينه، و خط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: “هذا سبيل الله” ثم تلا هذه الآية (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)، (سنن ابن ماجه، باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وتوعَد النبي صلى الله عليه وسلم المتشددين كثيرا فقال: “هلك المتنطعون”، كرًرها ثلاثا (صحيح المسلم، باب هلك المتنطعون)، ولذلك يقول عمربن الخطاب: “نُهينا عن التكلف فطوبى لمن سلك طريق الاعتدال والبشير، ففاز بالوسطية ونجا من التشدد”، و قد حذَّر النبي صلى الله عليه و سلم من مسالك التشدد أشدَ التحذير، فقال عليه الصلاة و السلام: “من رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله” (المعجم الكبير للطبراني، هشام بن عامر)، وقال عليه السلام: “إن ما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى اذا رئيت بهجته عليه، و كان ردءا للإسلام غيره إلى ماشاء الله، فانسلخ منه و نبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك” قيل: يا نبي الله أيهما أولى بالشرك المرمي أم الرامي؟ قال: بل الرامي” (مشكل الآثار للطحاوي)

إن للاعتدال صورا تتضمن جميع مناحي الحياة، لكن نخص الحديث هنا عن سلوك منهج الاعتدال في الجهاد، فالجهاد يُفسِده الإفراط والتفريط؛ فبهما تذهب دماء ملايين الشهداء سدى، ولا تُثِمُر تضحيات المجاهدين، ولا يترتب عليها مصالح ملحوظة، بل إن الإفراط والتفريط يؤديان إلى فواجع كبيرة ومصائب جسيمة، فيُفضيان إلى هتك أعراض المسلمين وسفك دماء الأبرياء وتدمير البلدان وهلاك الأموال وكساد الأسواق! ويتسببان في وقوع فظائع ومظالم ومجازر إنسانية أليمة، بالإضافة إلى أن الإفراط والتفريط في الجهاد يؤديان إلى تضعيف المجاهدين وكسر شوكتهم وتشتيت صفوفهم وتفرِّق كلمتهم.

وخلاصة القول: فإن الإفراط والتفريط يضعان نقطة النهاية للانتصار والفلاح، فمهما حاول المجاهدون وبذلوا قصارى جهودهم، وقدموا غاية ما في وسعهم لتحقيق أهدافهم، لكن محاولاتهم كلها في النهاية ستبوء بالفشل الذريع، ولذا فإننا قد تقينا أن أهداف الجهاد لن تحقق بالإفراط والتفريط وإن قدم الشعب تضحيات ثمينة وأنفق الغالي والنفيس. وها أنا أذكر قضيتين تتعلق بالجهاد والمقاومة ضد الكفار، حيث علق المسلمون بهما آمال كبيرة، لكن خُيبت آمالهم وجُرحت مشاعرهم ولم يتحقق ما كانوا يتطلعون إليه، بل على العكس فقد فسد كل شيء، وصارت تلك القضيتين معولا هدًاما على رؤوس المسلمين بدل أن تُجلَهم وتُعلي شأنهم، وهاتان القضيتان قد شاهدناهما بأم أعيننا، فنحن شاهدوا عيان لهما، وهما:

الأولى:

قد نشأت جماعة وبرزت في جزء من العراق والشام باسم: دولة الإسلام في العراق والشام، وادَعت إقامة الخلافة الإسلامية والإطاحة بالدول الجمهورية كلها، وتخلَيص المسلمين من الظلم والعنف والتعذيب والعدوان، ونجاتهم من البلايا والمصائب، وبدأت تُردَد هذه الهتافات والأهازيج والشعارات.

توقع المسلمون أنها ستجمع المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها وتحتضنهم وتجعلهم يتعايشون تحت راية واحدة؛ وأنها ستوحًد صفوفهم وتلمَّ شملهم، وتتعاطف مع الضعفاء منهم، وتنشر بين أوساطهم الحب والاحترام والطمأنينة والأخوة والإيثار، وتيقنوا جميعاً أن المستضعفين الذين كان يستنجدون منذ عقود ويصرخون وامعتصماه!  وامعتصما! قد وجدوا أخيراً مأوى وملاذاً يلتجئون إليه، وأن الله عز وجل قد استجاب دعواتهم، فامتلأت صدور المسلمين فرحة وسرورا.

فتجمع شباب الأمة عليها وبادروا إلى الانضمام إليها من مشارق الأرض ومغاربها، وانضم إليها مَن لديه عاطفة إيمانية من مختلف أنحاء العالم، فحررت مناطق وسيعة وتغلبت على أقاليم شتَى في العراق والشام، فاغترَ ببيعتها كثير من الحركات الإسلامية في الدول المختلفة، وسرى خوفها في المعمورة بأسرها، وصار العالم يهابها، فأثار هذا الأمر فيها الغرور والتكبر، وظنَت أنها قد جاوزت القنطرة، فتكبرت وتجبرت وتمادت في القتل وسفك الدماء والتفنن في إزهاق الأرواح.

انعكس الأمر! فخُيبت الآمال وتحطمت القلوب وتحيّرت العقول، فقد أحدث المنتمون إلى هذه الجماعة ما تنبو عنه الأسماع وتنفر منه القلوب وتشمئزَ منه النفوس، حيث بدأوا يغلظون  على المسلمين الأبرياء ويشددون عليهم، وظلَوا يشرَدونهم ويسفكون دمائهم ويهتكون أعراضهم ويدنسون كرامتهم، وشمَّروا عن ساق الجد والاجتهاد لاجتثاثهم من أراضيهم، ووجَهوا سهام العداوة إلى المجاهدين وغدوا أشدَّاء على المسلمين رحماء مع الكفار والمنافقين، واستهدفوا كبار علماء أهل السنة في  البلدان الإسلامية، والأبشع والأمرُّ أنهم كانوا يعلنون عن مسئوليتهم بكل فخر وجرأة .

وقاتلوا الجماعات الجهادية الأخرى، ووقعت بينهم معارك طاحنة وحروب حامية الوطيس، وفجَروا سيارات مفخخة تجمعاتهم، واستخدموا كل الأسلحة التي طالت إليها أيديهم ضد المجاهدين، وتوجهوا إلى هذا الأمر وركَزوا عليه، إلى أن أصدروا مقطعاً مرئياً يظهر فيه قيامهم بإبادة جماعية لمئات من مجاهدي تنظيم القاعدة، وما ذلك إلا غيض من فيض ويسير من كثير.

كما أنشأوا جماعة في أفغانستان وتبنوها، فكفَّروا كل من ليس منهم وجوَزوا قتالهم، وبغوا على الإمارة الإسلامية، وخرجوا على أمير المؤمنين، وجعلوا يقتلون عامة الناس العُزَل بطرق وحشية بشعة، وقاموا في جبهات القتال بشراسة وهمجية لا يُقرَها دين من الأديان السماوية، ولا يعترف بها قانون من القوانين البشرية الوضعية، ولا يوجد لها مثيل في أعراف المجتمعات الأخلاقية، فأفسدوا البيئة على المجاهدين، وشنَوا هجماتهم وغاراتهم عليهم من كل صوب، فاحتلوا مناطق كثيرة، ولم يوجد طريقا للظلم إلا دخلوه من أوسع أبوابه، وما ارتُكبت جريمة منذ خلق الله الإنسان إلا كرَّروها في صورة أبشع من سابقتها.

يا للعجب! جاهروا بتكفير حركة طالبان وجوزوا قتلهم وذبحهم، لكنهم في ميادين القتال وعند احتدام الحروب والمعارك استسلموا لإدارة كابول وارتموا إلى أحضانها، واستغاثوا بها ولاذوا إليها، واستنجدوا بطائرات المحتلين، فالإفراط يعقبه التفريط والتفريط يعقبه الإفراط.

فلأجل الإفرط واجههم الضعف واعترضهم الفشل والإخفاق، ولم يستفد المسلمون من التضحيات وما لمسوا أي مصلحة من هذه الحروب، بل مكَّنت الأعداء من الظفر بمناطق المجاهدين والتغلب عليها والسيطرة على جبهاتهم وقتل الآلاف من المسلمين وأسرهم واعتقلهم، فلا أقاموا خلافة إسلامية ولا أنقذوا المسلمين من البلايا و النكبات، بل شكَلوا عقبات وعراقيل في طريقهم و وألحقوا بهم أضراراً لم تلحق بهم قبل ذلك، فهذه ثمار الإفراط في طريق الجهاد.

والثانية:

كما أن في التفريط في الجهاد تضيع دماء الشهداء، وتذهب التضحيات الثمينة أدراج الرياح، وتخمل الجهود وتذبل الإنجازات قبل قطافها.

فقد قام الشعب وثار ووقف صامدا في وجه الاتحاد السوفيتي وضحى بالنفس والنفيس، وقدم الملايين من الشهداء والجرحى من أجل إقامة نظام إسلامي وإعادة العز والكرامة والأمن والأمان إلى بلدهم، لكن قادة الجماعات الجهادية وزعمائها فرطوا وخاضوا في الجمهورية ورضوا بالديمقراطية ودعوا الناس إلى الاقتتال و التفاخر، وتحالفوا مع الكفار والمحاربين، ووقَّعُوا على اتفاقيات العمالة والذل مع الدول الصليبية المحتلة، ومهدوا لنشر الفجور والمجون والرذيلة في البلد، فهؤلاء الانتهازيون اتخذوا الجهاد مطية للوصول إلى المكاسب السياسية والفوز بالمناصب الحكومية، ولم يحجموا في سبيل الحصول على فتات الدنيا عن التحالفات مع الشيوعيين و العلمانيين والقوميين.

كان أمل الشعب الأفغاني المجاهد من هؤلاء القادة أن يقودوا جهادهم نحو العزة والحرية، ويتوِّجوه بإقامة حكومة إسلامية وتطبيق شرع الله فيها، ولكنهم خانوا الله ودينه وخانوا الشعب ونقضوا العهد وحوّلوا حركاتهم الجهادية إلى شركات اقتصادية واستثمارية خاصة بهم وبعائلاتهم، واعتبروا أموال المجاهدين ثروة شخصية لهم، وفوضوا جهاد الشعب المسلم إلى التحالف الصليبي الغربي ورضوا بأن يكونوا وزراء وعملاء ونواب وقادَة المليشيات في حكومة الاحتلال الأمريكي في أفغانستان.

وخلاصة القول: فقد ضاعت ثمار تضحيات المسلمين وهدرت دماؤهم، وواجههم ما يُعجز عن تقييده بالكتابة، بالإضافة إلى أنه لم يترتَب على ذلك مصلحة تُذكر، ورغم ما تحمله من المشاكل والمخاطر والصعوبات في هذا السبيل فإن الهدف لم يتحقق؛ وكل ذلك لأن أرباب هاتين القضيتين ممن كان بأيديهم زمام الأمور قد تجاوزوا الحدود الشرعية وجانبوا الوسطية المطلوبة فوقعوا في طرفي الإفراط والتفريط.

فالإفراط والتفريط يخلقان عقبات في الطريق ويعرقلان الوصول إلى الهدف، ويسبِّبان توقف المسير، ولن تنجح فكرة يدنسها الإفراط والتفريط، ولذا فعلى الفئات الإسلامية والجماعات الجهادية أن يجعلوا الاعتدال والوسطية نصب أعينهم، ويحترزوا الإفراط والتفريط، وإلا سيحل بهم ما حل بمن سبق ذكرهم، وسيواجههم نفس ما واجههم، فالنظام الإسلامي لا ولن يقوم على أسس الإفراط والتفريط، فهذا ما دل عليه الشرع وأثبتته الوقائع والتجارب.

بقلم: فضل الرحمن