شهداؤنا الأبطال: الشهيد عامر البلوشي تقبله الله

أبو يحيى   العصر الذي نعیش فیه عصر محفوف بظلمات النفاق والمعاصي، فمن جانب اشتدت وتيرة الفساد والابتعاد عن دين الله تعالى، ومن جانب آخر تنسرت البغاث بأرض المسلمين، وتربعوا على عروش حكمهم، فيحكمون عليهم بما يملي لهم شيطانهم وهواهم. یتکابد المسلمون في كل ناحية من هذه المعمورة طولها وعرضها، شرقها وغربها أنواعا من المظالم، […]

أبو يحيى

 

العصر الذي نعیش فیه عصر محفوف بظلمات النفاق والمعاصي، فمن جانب اشتدت وتيرة الفساد والابتعاد عن دين الله تعالى، ومن جانب آخر تنسرت البغاث بأرض المسلمين، وتربعوا على عروش حكمهم، فيحكمون عليهم بما يملي لهم شيطانهم وهواهم. یتکابد المسلمون في كل ناحية من هذه المعمورة طولها وعرضها، شرقها وغربها أنواعا من المظالم، واللامساوات، والجور والقسوة، والهمجية. فقد اشتد التهدید علی کل مؤمن حقیقي یخاف الجبار، وعلی کل مسلم یعیش تحت ظل الإسلام الخالد، ويريد أن يتحكم بشرعه، ويقول ربي الله.

لقد کثرت مخالفة تحکیم شریعة الرحمن بالتشدید والإجرام من جانب الکفار والمنافقین، حتی تتداعى کل دولة أخری علی الإسلام وتحكيمه کما تتداعى الأکلة إلی قصعتها، فيواجه كل مسلم انتدب ليدافع عن شرع الله، وأرضه بأنواع من التهم، ویذوق لله ولأجل الله أشد البلایا فما لهم ناصر ولا معين.

فهاهم المسلمون في أرض الله المباركة، يواجهون أعلی الدرجات من الظلم والاضطهاد، ویذوقون فوق طاقتهم طعم الخذلان من جانب الأقرباء والأصدقاء، وهتك الحرمات من جانب الطغاة.

فأفغانستان إحدى البلدان الإسلامیة التي تواجه احتلالا عنیفا من جانب الحلف الصلیبي الشیطاني العالمی بقیادة أمریکا، فنری جنود الحلف الأطلنطي وعملائهم من بني جلدتنا یعذبون الناس أشد العذاب، یقتلون أبناءهم، ونساءهم وکأنهم شر من آبائهم فرعون وهامان ونمرود فإنهم كانوا يقتلون رجالهم ویستحیون نساءهم، وهؤلاء لا يرحمون صغيرا ولا كبيرا، ولا يتركون ذكرا ولا أنثى.

وفي جانب آخر مع کل هذه المضايقات والتحزبات، نری أهل الإیمان والعقیدة، وأهل السعادة من المهاجرین والأنصار والذین اتبعوهم بإحسان يقدمون أغلى ما عندهم فداء للشعب الأفغاني المضطهد بمعنى الكلمة، ویدافعون بأثمن شيء عند کل إنسان من نفسه، وأحرص شيء یعیش له الإنسان من أموال، بل یبیعون أنفسهم في طریق الجهاد في سبیل الله ویشترون الجنة من ربهم تعالی.

یقول الله عزوجل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

نعم؛ نری في میادین القتال رجالا لاتلهیهم تجارة، ولابیع عن سبیل الله، فنفروا في طریق الجهاد خفافًا – بلا مال وحتی بلا ألبسة غير ما يواري سوءتهم، وثقالا مع إیمان وعقیدة راسخة مثل الجبال بعیدة عن أي شرك وتندید، أوکفر ونفاق.

هم الذین یتحملون أشدّ البلایا والشدائد، ويواجهون الغربة العمیقة الطویلة، والبعاد عن الوطن والتنائي عن الأهل والأولاد محتسبا ذلك كله في الله ولأجل تحكيم شرعه.

الشهید المهاجر، الغريب بمعني الكلمة الذي أردنا أن نقتبس جذوة من حياته الحافلة بالبطولات والتضحيات، شخصیة مثالية تشرفت بمصاحبته ردحًا من الزمن، ورأيت منه ما لم يرَ الكثيرون، فحقا إنه كان شخصية مثالية قلما يجود الزمان بمثله وكان من هؤلاء الغرباء الذين جاءت بشارتهم في الحديث النبوي الشريف، وكان من هؤلاء البعداء من الأهل، الشهداء في دار الغربة، والهجرة.

أبصر شهیدنا البطل النور عام 1375هـ.ش/ بدار الهجرة في إیران/ ونشأ وترعرع في أحضان عائلة مؤمنة ملتزمة ومنتسبة لأهل العلم، ولکن بعیدًا عن التثقف بعلوم شرعية أو فنون عصرية، غیر تعليمات بسيطة تلقاها من أمام مسجد حيه كما هو شأن أبناء الوطن المشردين.

فعاش مدی خمسة عشر عاما بعیدا عن التعلم والتثقف، مندمجا في سفاسف الأمور، ومنغمسا في الأعمال الروتينية، فلا ميل إلى العلم، ولا اشتياق إلى العبادة، وخلق سيء يكرهه الأهل والعشيرة.

ثم بعد خمسة عشر عامًا أو ستة عشر عامًا من حياته رجع مع أسرته إلی وطنه أفغانستان المحتلة المبارکة، وهو آنذاك كان في مرحلة حساسة من عمره، فمکث هنالك فترة من عمره، نائيا عن أية طاعة وعبادة، متورطا في حمأ المعاصي، ومندمجا في مستنقع الذنوب، فكان لایبالي بمخالفة ربه حتى وصل إلی حد ما بقي باب من الذنب إلا وقد قرعه، أو معصیة إلا فعلها.. ولکن يد القدر أخذت بيده ليخرجه من مستنقع المعاصي بعدما غاص فيه إلى ذقنه، بعد هجرته الثانیة مع أهله إلی إیران، ولتجعله من أقدم الناس في طریق الجهاد في سبیل الله عزوجل.

نجاه الله ليعلم العالم بأن القلوب بین إصبعي الرحمن یقلبها أینما شاء، ليعلم العالم بأن الله لوأراد أن یقلب أحدا یقلب کل أحواله، ولوکان فاجرًا، فاسقا، بلیدا، لیعلم العالم بأن علینا ألا نخذل أحدا لمعصیة فعله، أو إثم اقترفه.

یحکي أحد من الإخوان الذي تسبّب لهدایته قائلا: عندما هاجر الشهید من أفغانستان مرة ثانیة في أول مرة لقيته تلمست فيه تغييرا سلبيا كريها.

رأیته وقد حلق لحیته، وأخذ حاجبه مهندسيا، فقلت سبحان الله أخيّ أنت ابن أب مجاهد بطل، وأم مغوارة بل وأخ مجاهد، وتنشئت تحت أحضاني کیف تعصي رب الأرباب، وهو الجبار القهار، ذهبتَ إلى وطننا ورجعت وأنت لاتبالي بثکالی وطننا ویتامی من إخواننا، ألا تدري أن أفغانستان الإسلامیة صارت محتلة بسبب هجوم التحالف الصلیبي الشیطاني العالمي. – وهذا طریق يختاره الداعي الشفیق في دعوته بأن یعرض المصائب والمدلهمات ثم بعده یدعو إلی الخیر وترك المنكر.

وتطرق أخوه الفاضل ناصحًا: فنصحته قبل أيام من حلول شهر رمضان المبارك، وأرسلته مع إخوة الجماعة والتبليغ ثلاثة أیام وبعد ما رجع وقد خففت عن كاهله أوزار المعاصي، عرفته بالشيخ المجاهد المولوي سعد رحمه الله بعد توجيهات الشيخ سعد المتواصلة، وبعد نفخه روح المقاومة والجهاد في وجدانه وأحاسيسه انشرح صدره، وطار شوقا ليرى ولو مرة ميادين القتال وساحات النضال، إرشاد الشیخ سعد له إشتاق شهیدنا الفذّ إلی ساحات القتال ومیادین النضال، حتی وصل بمساعدة المولوي سعد إلی ساحة العشاق، میدان الشهداء، إلی منشأ الرجال ومقتل الضراغم المغاوير إلی أرض برافشة المخضبة بدماء الشهداء.

تلقى تعلیماته العسكرية في برافشة وشارك في كثير من الدروس العقدية التي كانت تنعقد بين فينة وأخرى في أرض برافشة، وتلمذ لدى كثير من العلماء والنخب، بل وعاش مع كثير من الشهداء البارزين ومنهم أستاذه وأميره المولوي سعد رحمهما الله.

اشتهر الأخ الشهيد عامر بين المجاهدين بـ «دانشجو» أي الطالب الجامعي؛ لأنه کان يبرع فی برامج الجوالة، وترميمها، فأصلح لأحد رفاقه جواله وأصبح بعد ذلك مسميا بدانشجو. وکان معروفا بهمته العالية، وکان من الناصحین لکل مجاهد، وكان أكثرهم شوقا إلى الفتوحات، وخوض المعامع، وتطهير الثكنات والقواعد، كما كان يطمح إلی تحکیم شریعة الرحمن وإعلاء کلمته فی العالم کله، وکان من آماله أن یری رایة التوحید تترفرف فوق کل مکان عليّ.

ولذلك كان يكثر من التعلم والتدرب، ويسعى جاهدا ليحرز قصب السبق في كل ميدان، سمعت عن كثير من رفاق دربه أن الشهید نصحهم ليتدربوا للغاية، ويتعلموا فك الأسلحة كلها؛ الثقيلة منها والخفيفة وكان دائما ينصح رفاق دربه: إن الأعداء لا يدخرون وسعا في التدرب والتذرع بالمزيد من الحيل لقتلنا، وإيقاع الهزيمة فينا، ونحن مازلنا متغافلين.

وكان رغم خلقه اللین الذي تخلق به بعد خوضه غمار الجهاد، وقافا عند کتاب الله، ومحافظا علی شریعة ربه، أذکر أني خالفته فی مسألة عقدية فتلقيت رد فعله عنيفا فخجلت کثیرا مما قال مع أنه كان أقل مني علما، فأرى صرامته هذه تعلمها من أستاذه المولوي سعد رحمه الله.

مع أنه كان رحیما بإخوانه المجاهدین يتفكه ويتذلل في مجالسهم كان عزيزا على الأعداء، يشعل في كل عملية فتيل الحرب بيده وکان من الإخوة الانغماسيين الأفذاذ، صامدا في حين تبلغ القلوب الحناجر، ويفتقد الأبطال أيديهم من شدة وقعها.

إن من أبرز صفاته التي ما زلت أتورق لأجلها، وأحترق تأففا عليه هو غربته العجيبة، وتجلده الأعجب، فقد هجره أکثر إخوانه وأهله بل وقومه عندما نهج الجهاد طريقا، ترکوه وحیدا غریبا فی وطنه الغریب.

عندما أتذکر شکواه عن غربته والله ربما أکاد أن أتفجر حزنا وكمدا، وكان يقول: لا یتصل بي أحد، ولایسألون عن حالي، ترکوني غریبا منذ عام لایسألون عن حالي لأني مجاهد، مرضت أیاما کثیرة، وزادت مرضي غربتی ووحدتي.

یحکي رفاق دربه أن الشهید رحمه الله تورق حازنا عن شهادة مربیه الحکیم، وأستاذه الشفیق، ورفیقه الشهید، المولوی سعد رحمه الله، لأن شهیدنا البطل یوم شهادة المولوي کان في جبهات فاریاب بعیدا عنه بفراسخ وأميال.

سبحان الله ما أصعب تلك اللحظة وهذا الیوم. أستاذه استشهد وهو فی مدینة نائية عنه فمابقي عن أستاذه سوی صورة دون حراك، وصوت دون ركز، لقد أحيى شهیدنا ذكرى معاذ إذ قال له نبی الله یا معاذ ربما رجعت ومررت علی قبري…

فلم يعد عامر يطيق الحياة صبرا بعد مقتل أستاذه مع أنه رأی في تلكم الأيام حلم شهادته، وحکاه لرفاق دربه.

کلما كان يتکلم مع أصحابه كان يقول سيأتي دوري وأنضم برکب إخواني الشهداء، وطلب من الله الشهادة فی هذه الأیام.

حکت أمه وقالت: مضت أیام عن شهادته ومازلت ازداد بكاءا، فقال لي حفیدي يا أماه أما تتذکرين أن خالی عامر كان هنا قاعدا وقال: رأیت فی المنام أن الملائکة أخذوني وطرقونی إلی السماوات فسخرت منه لما قال.

نعم إن شهیدنا رأی مثل کثیر من الشهداء منام شهادته، وطیران روحه إلی العرش، وألهم عليه من جانب ربه أنه ستطیر روحه إلی رب الأرباب وستصل إلی أسمى أماني کل مجاهد فی حیاته.

وإني أعتقد أن الشهید وصل إلی درجة الأولی من الإحسان بل أبلغ منه وکأنه یری ربه عزوجل في الثغور ویتکلم معه کالأنیس المشتاق.

استشهد في أعلي درجة من الغربة فی ساحات فاریاب، بعیدًا عن مسقط رأسه وبعيدًا عن أهله حتی وعن أصدقائه الذين کانوا معه في جبهات خاشرود وبرافشة، ألقى عصى الترحال ليستريح بجنب أستاذه مع أستاذه سعد فما طال الفراق! وما أكثر الشوق إليه ویاطوبی لهما ولکل الشهداء.

فضمخ الشهید الغریب ثری فاریاب بدمائه الذکیة الطاهرة عام1397هـ.ش بعد ما ذاق مرارة الطريق، وقلق لشهادة إخوانه وأصحابه في قصف عنیف الذي شنته طائرات الإجرام في خاشرود الذي خلف أكثر من تسعة عشر شهيدا.

وخلف من بعده خلفا من إخوانه المجاهدين الذين أرشدوهم للجهاد في سبیل الله عز وجل ومن الأبطال الذين رباهم لهذا الطریق. ولقد سمعت کثیرا أن الشهداء لا تذهب دماءهم سدى، والله لقد أسغت مع شهادته هذه الكلمات حقا، فقد تغیرت عقیدة کثیر من إخوانه‌، وأعوانه، وأقوامه من جهاد أفغانستان حتی استعد کثیر منهم أن یذهبوا إلی ساحات الجهاد فی أفغانستان وفقهم الله.

وحتی الهتاکین لسماحة مجاهدي أفغانستان صاروا معاونین ومناصرین لهم ینصرونهم بألسنتهم وأموالهم وربما بأنفسهم بالحضور في میدان الجهاد.

ولقد رأت أم الشهید بعد استشهاده في منامها أن الشهید قال لأمه یا أماه لماذا تبکي علي کثیرا وأنا في مکان طيب، لاتبكي علي یقلقني بکاؤك.

سبحان الله ها هو الشهید الغریب، الرجل البطل، الضرغام المغوار، صاحب المروءة والتضحیة، والشهامة، والشجاعة، تطیر روحه في جوف طیر خضر یأکل من ثمار الجنة ثم‌ تطیر إلی قنادیل تحت العرش تنتظر یوم لقاء الله تعالی.

فیا طوبی للشهید الغریب ویاطوبی لمن تبع طریقه. ویا طوبی لمن تبعهم‌ بإحسان.