كلماتٌ مبعثرةٌ عن الشهداء (1)

غلام الله الهلمندي   الشهداء هم الصفوة، هم من صفوة الناس وخیرتهم في کل شیء، في قیامهم وقعودهم، في ذهابهم وإیابهم، في منامهم ویقظتهم، في حربهم وسلمهم. أصلا الصفوة هم الذین یختارهم الله تعالی للشهادة، لهذه المنزلة الرفیعة. ذکریاتهم أجمل الذکریات، ونبراتهم أحلی النبرات، ونظراتهم أحسن النظرات، وکلماتهم أعذب الکلمات، وخطواتهم أقوی الخطوات. إذا شبهنا […]

غلام الله الهلمندي

 

الشهداء هم الصفوة، هم من صفوة الناس وخیرتهم في کل شیء، في قیامهم وقعودهم، في ذهابهم وإیابهم، في منامهم ویقظتهم، في حربهم وسلمهم. أصلا الصفوة هم الذین یختارهم الله تعالی للشهادة، لهذه المنزلة الرفیعة. ذکریاتهم أجمل الذکریات، ونبراتهم أحلی النبرات، ونظراتهم أحسن النظرات، وکلماتهم أعذب الکلمات، وخطواتهم أقوی الخطوات.

إذا شبهنا الناس کلهم بالبستان، فالشهداء هم الورود الحمراء، هیهات!! کلا!! لا أحسب التشبیه یصدق فیهم؛ فإنهم أفضل وأجل وأثمن بکثیر کثیر من الورود الحمراء. إذا شبهناهم بالورود ظلمناهم – دون شك – وسلبناهم فضلهم ومکانتهم. إنهم فخر الأمة وتیجانها بلا منازع.

في أثناء کتابة هذا المقال، في الحدیث عن الشهداء، رجعت إلی الوراء، إلی التاریخ، تاریخي الذاتي، رجعت تخیلیا وفکریا؛ قمت بسفرة خاطفة في نفق الزمان -کما یقال- رجعت الی ما یقرب من ثلاث عشرة سنة، الی یوم کنت أدرس فیه في مدرسة دینیة، فوجدتني قد خرجت من المدرسة بعد صلاة العصر للنزهة، مع صدیق لي کریم، دائم الصمت، لا یتکلم إلا عند أمس الحاجة. کان الصمت سائدا بیننا، فثارت فضولیتي في صدري فجأة وبعثت في نفسي التخیل خلال هذا الصمت فسألت نفسي: ما هي الکلمات الخالدة في ذاکرتك، الکلمات التي تحبینها أکثر من أي کلمة في الدنیا، وتشعرین معها بالسعادة وتستلذین بسماعها وتستعذبین ذکرها، فبحثت (النفس) ثم بحثت في قاموسها، حتی وجدت هذه الکلمات الثلاث: «الإسلام» «المجاهد»، «الشهید».

بالطبع لم یکن ولادة هذه الکلمات في القلب صدفة، بل کان هناك دافع دفعني إلی حب هذه الکلمات الخالدة؛ کان قد استشهد أحد أصدقائي (أو قل) إخوتي، اسمه إبراهیم (وهو أول شهید من أصدقائي) استشهد من عهد قریب؛ قبل حوالي سنة من ذلك الیوم، دخلت هذه الکلمات قلبي، وعلقت بسویدائه.‌

هذا هو سر نجاح المجاهدین، وهذا هو سر خلود الجهاد، لأجل هذا السبب فمعین الجهاد لا ینضب أبدا. إن قتل أحد شهیدا في سبیل الله، نفر أهله وإخوته وأصدقائه وحتی جیرانه خفافا وثقالا إلی میادین الجهاد، حیث قتل صاحبهم، یسارعون إلی الجبهات ثأرا بدمه الزکي وانتقاما من القتلة. هذا ما رأیناه بأم أعیننا. من ذا الذي يصبر علی قتل أخیه أو صدیقه – إذا کانت الصداقة لله فقط – من ذا الذي یسکت علی العار والشنار! علی سبیل المثال لا الحصر، لما استشهد مجاهد اسمه «مدني»، (سأحدثکم عنه في الحلقات القادمة بإذن الله) لما استشهد، دخل بعید استشهاده عدد من المجاهدین میدان الجهاد وسموا أنفسهم بنفس الإسم، «مدني». کانوا من أقاربه وأصدقائه وجیرانه.

ما أحلی هذه الکلمة (الشهید)!!! نعم الکلمة هي! إن هذه الکلمة -صدقوني یا ناس- قد شقت طریقها إلی أعماق قلبي، إلی طفولتي وأحلامي، فلها مکانة مرموقة في طفولتي وأحلامي وطموحاتي وآمالي.

إني أحب کل ما یتصل بالشهید أیما اتصال، مهما کان ضئیلا، أحب تلك الکلمات التي نطقت بها ألسنة الشهداء، وأحب تلك الأناشید التي کان یحبها الشهداء، ویستمعون إلیها، وأحب تلك الأرض التي قد وطئتها أقدام الشهداء. هذه طبیعتي، کنت هکذا في الماضي، ولازلت هکذا في الحال، وسأبقی هکذا في المستقبل بإذن الله.

 

أحب الصالحین ولست منهم *** لعل الله یرزقني صلاحا

 

في أثناء الدورة التدریبیة الأولی للأسلحة الخفیفة، تعرفت علی الشهید – بإذن الله – نصر الله، من أبناء «برافشا» ذاتها، فإنه کان یعیش قریبا منا، داخل صخرة، نعم داخل صخرة -ولیس لغزا- صخرة کبیرة راسیة جوفاء، تشبه عنبرا علی شکل الأسطوانة – فیما أذکر – قد حفر داخلها تماما و صنع لها منفذ ضیق، وهو بابها، لا تستطیع أن تدخلها براحة، بل یجب أن تتسلل إلیها راکعا أو جالسا، فصنعت الصخرة کالعنبر تماما. کأنها صنعت وهیئت لمثل هذا الظروف ولمثل هذه الأیام بالضبط. کانت الصخرة من عجائب القدرة وصنع الله الذي أتقن کل شیء. ولي مع هذه الصخرة قصة عجیبة، سأعود وأقصها علیك.

الشهید نصر الله کان رجلا بسیطا قلیل التکلف، نحیف العود، نحیف البدن، قصیر القامة، له لحیة سمراء، و شعر أشعث وأغبر، ونبرات رقیقة؛ ولکن الرجل کان بطلا صادقا وفیا، کان ذا خلق کریم، کان له بسمات لا تفارق الکلمات، بسمات إذا خرجت من خلال أسنانه الصفراء، لا تسطیع أن لا تحبها.

قد شق حبه طریقه إلی قلبي وتغلغل في أحشائي من أول یوم التحقت فیه بالمعسکر التدریبي.

کان صاحبنا متزوجا وله طفلة، وبیته علی بعد کیلومترات عدیدة من مرکزه (أو قل) من الصخرة العجیبة التي کان کان یقضی فیها لیله کله ونهاره جله، ولم یکن یذهب إلی أهله الا نادرا. فکان یحرس المرکز وحیدا، لیس معه أحد؛ لکن مهلا مهلا! کان یصاحبه أحد ولا یفارقه أبدا؛ ولو للحظة، بل هو الذي کان یدفعه دفعا إلی کل هذه المشقات والتضحیات الجلیلة. إن الذي کان معه دوما، هو قلبه، قلبه الهصور الصبور الغیور، الذي کان یحمله بین جنبیه.

کان للحراسة اللیلیة أهمیة کبیرة في هذا المرکز الإستراتیجي، المرکز الذي یحمیه ویحرسه رجل واحد، رجل قد قلبه من الفولاذ لا یلین عند الشدائد، إنه «نصر الله»، الرجل الذي کان کتیبة في الرجل. فقد کان لهذا المکان سابقة خطیرة. قبل زمن منا، کان قد دخل مشاة العدو المحتلّ من طریق هذا الوادي الضیق مرة، وقاموا بهجوم لیلي علی مرکز للمجاهدین في وسط المدینة وقتلوا عددا منهم؛ وهم في سبات عمیق بعد إرهاق شدید أصابهم في طریق العودة إلی برافشا؛ وهم عائدون من معرکة، و‌غلب النوم علی حارسهم، فاکتحل بنومة لیست خفیفة، فانتقلوا جمیعا من نوم عمیق إلی نوم أعمق، أو بتعبیر أصح فخرجوا من حیاة فانیة إلی حیاة خالدة. تقبلهم الله في الشهداء.

کان الشهید یقضي لیله ونهاره وحیدا، بعیدا عن الزوجة والأسرة، في جهد من العیش، ویحتمل الحر في الصیف والقر في لیالي الشتاء القارسة، ویصبر علی الجوع والعطش والتعب المستمر، ولا یتعاطی أي نوع من التبرعات، من بیت المال؛ علی غرار أي مجاهد آخر. العجیب أنه کان یقول: «کنت تاجرا قبل اللحاق بالمجاهدین.» نعم، کان قد ترك دنیاه ومطامعها وزهرتها، واقتنع بلقمة یعیش بها عزیزا مع الأعزة، ویحیی کریما مع الکرام، تحت رأیة المجد، رأیة التوحید، رأیة الإمارة الإسلامیة. کان الحراسة عن المرکز بشکل دائم والقیام بأمر الألغام والصواریخ شغله الشاغل والوحید، لا یرفع إلی غیره رأسا؛ وقد وضع حبل الدنیا علی غاربها، لم أره أبدا یتفلت عن أوامر القادة والمسئولین، کان – رحمه الله – ملیئا بالحیویة والنشاط.

هذه حال شبابنا، تعب دائم وسهر مستمر وعمل لا یکاد ینتهي، بشوق بالغ، بدون أي نوع من الرواتب. هذا هو الفرق بین جنودنا وجنودها (الدولة العمیلة) شتان بیننا وبینهم! ستبید – بإذن الله – هذه الدولة العمیلة وتنهار یوما بل عن قریب، بإذن الله، الدولة التي لم تسجل جنوده من أول أیامهم ولا تقاتل إلا لأجل رواتب یتعاطونه علی رأس کل شهر، من جانب الدولة علی حساب الشعب. هذا هو إیمانهم الذي یقاتلون دفاعا عنه، وهذه هي عقیدتهم التي یصمدون لأجلها. إنهم لا یقاتلون طبعا علی أساس عقائد یعتقدون بها، وعلی أساس مبادئ یؤمنون بها، وعلی أساس أهداف یتحمسون لها. کلما انتقصت رواتبهم ورفاهیاتهم، کلما ضعفت عزائهم وإراداتهم. إن أول یوم ستنقطع فیه الرواتب، والأجور، سیکون بإذن الله آخر یوم من عمر الدولة، واستسلام جنودهم لجنودنا بالمئات والآلاف یومیا خیر مثال علی ما قلت.

کان – رحمه الله – أمیا محضا، لم یدخل المدرسة أو الکتاب أبدا ولم یتعلم حرفا واحدا؛ لأجل المعیشة البدویة، کان قد قضی أیام صغره برعي الغنم لأبیه. لتعش الأمیة!! الأمیة التي لم تمنع صاحبها عن حمل السلاح في سبیل الإیمان والعقیدة واستعادة الحریة، الأمیة التي لم تحل بینه وبین الجهاد في سبیل الله، الأمیة التي لم تمنعه عن الرسوخ في الإیمان، والثبات في الجهاد، الأمیة التي لم تمنعه عن احتمال الحر والقر، ومکابدة الجوع والعطش، الأمیة التي هدته إلی التفاني والتضحیة، ثم إلی قمة السعادة الأبدیة.

إن هذا النوع من الأمیة من غیر شك أفضل بکثیر من العلم الذي یبرر القعود عن الجهاد، بل ربما یسمیه بالإرهاب ویسمي المجاهدین بالمتطرفین، بحجج واهیة، لا تقبلها الشریعة الغراء ولا یؤیدها المنطق السلیم.

نعم، لم یتعلم القراءة ولا الکتابة؛ ولکن مهلا مهلا… فإن الرجل کان قد تعلم مکانهما الکرامة والشجاعة، ورضع بلبان الصمود والحریة، وأشرب حب الإسلام وولاء المؤمن، تعلم کل ذلك في أسرة مؤمنة صادقة. کان الرجل متخصصا في زرع الألغام خبیرا في تسدید الصواریخ الصغیرة من نوع «بي إم 12» وکان یحمل بین جنبیه قلبا هصورا، لا یلین لأهوال یشیب منها الولدان، قلبا صبورا، لا یسأم الوحدة أبدا، الوحدة المستدامة، التي کان قد ألفها إلی حدّ ما.

بقي أن أقص علیك قصتي مع الصخرة العجیبة، کان الشهید قد ذهب إلی بیته، ذات لیلة وقد طلب مني وشخص آخر – لا حاجة لذکر اسمه – أن نبیت اللیلة مکانه ونقوم بواجبه. کانت اللیلة – مع الأسف- رهیبة شدیدة الظلمة، لو أخرجنا أیدینا، لم نکد نراها، لم نکن نملك غیر ضوایة ضئیلة لا تکاد تخترق الظلام و تنیر الطریق، والریح تهب بشدة وسرعة وتلعب بأوراق الأشجار والنبتات والحشائش وتخلق ضجیجا یزعجنا، وهذه الظروف کانت تعتبر شاقة وصعبة بحساب تلك الأیام، قبل ما یقرب من عشر سنوات، کان إحتمال الهجمات اللیلیة للعدو کثیرا في کل لحظة، علی أي حال، فلم تکن اللیلة من اللیالي العادیة؛ إذ أن الطائرات قد حامت في ذلك الیوم، حول المدینة، أکثر من ذي قبل، والقادة قد أعلنوا عن حالة الطوارئ. لما أطبق الظلام، سرعان أن حملنا أمتعتنا و صعدنا الجیل إلی الصخرة، عنبر الشهید، نصر الله، صلینا العشاء هناك، خارج الصخرة. بعد الصلاة قام صاحبي من مکانه، وصعد صخرة أخری قریبة مني جدا، فوقف علیها، وأنا جالس علی مکاني بعد، لم أقم. لا أدري ماذا حدث، لعله أصیب بالدوار! فجأة، ذعر ونادی بصوت عال: «قف! مکانك! لا تتحرك! من أنت؟» کاد أن یفتح قید الأمان ویطلق؛ غیر أن الله من علي وسلم. فأجبته هادئا: «صاحبك، لا تضرب

» کان قد ظنني المسکین شخصا آخر. کم ضحکنا في تلك اللیلة، لهذه الحادثة التي کاد أن تکون ألیمة، حتی تبدد الخوف في القلب واستحال الجو من الخوف إلی السعادة والمرح.‌ الله یغفر لي وله جمیعا.

وداعا أخي ورفیق دربي! وداعا نصر الله!! فما کنت أحسب یوما أنك تفارقنا بهذه العجلة. انتهت أخیرا تلك الحیاة الملیئة بالمتاعب والواجبات والتکالیف، التکالیف التي کلف هو نفسها بأدائها. مما یزیدني أسفا أنه لم یقتل بید الأعداء في معرکة؛ بل قتلته ألغامه المزروعة بیده، مع الأسف، الألغام التي لا تفرق بین زارع وآخر، ولا تعرف الصدیق من العدو. العمل مع الألغام من أخطر الأعمال وأحوجها للإهتمام والعنایة والحذر، إذ الخطأ الأول سیکون الخطأ الأخیر. الله یرحمه ویتقبله في الشهداء الصادقین.