وداعاً السيد محمد الحقاني رحمه الله

انطفأت شعلة من شُعل الجهاد العنيد كانت تضيء للإسلام عامة ولأبناء الأفغان خاصّة، طريقهم إلى الحرية طوال سنوات مديدة منذ توليه المسؤوليات في عهد الإمارة الإسلامية إلى أن لقي ربه في ربيع الأول من العام الحالي 1437. كان تاريخ أمة، وأمجاد شعب، وعنوان كفاح، ورمز استقامة، ومثال نزاهة، ذلك هو الفقيد العظيم السيد محمد الحقاني […]

انطفأت شعلة من شُعل الجهاد العنيد كانت تضيء للإسلام عامة ولأبناء الأفغان خاصّة، طريقهم إلى الحرية طوال سنوات مديدة منذ توليه المسؤوليات في عهد الإمارة الإسلامية إلى أن لقي ربه في ربيع الأول من العام الحالي 1437.

كان تاريخ أمة، وأمجاد شعب، وعنوان كفاح، ورمز استقامة، ومثال نزاهة، ذلك هو الفقيد العظيم السيد محمد الحقاني رحمه الله تعالى.

أما أنا فحين أُخبرتُ بأن الفقيد سيد محمد الحقاني قد قضى، وأن هذا القائد العظيم قد ختم، أحسست كأن كارثة دوّت في أرجاء غرفتي، وأن الأرض زُلزلت ومادت، واكفهرّ الجوّ وتلبّد، وكأن قتامة تعلن للدنيا هذا الحدث المهول.

يا للكارثة … يا لكارثة المسلمين في عبقري من عباقرتهم، ويا لنكبة وفاجعة بلاد الأفغان في بطلها المغوار، وفي سيفها البتار، ورائدها وحاديها في قافلة الأبرار والأحرار.

يا الله أحقاً رحل من نزلتُ عنده ضيفاً فامتنّ عليّ وأحسن بما لم أكن أتوقعه، وأكرمني إكراماً بالغاً وأفادني هو وأخوه الكريم – الذي كان آنذاك والي هرات ثم صار فيما بعد مسؤول الأسرى -، بتجاربهما الجهادية، ولكن ترى ما الفائدة والحسرات باقية في الفؤاد حيث أننا فقدناه ولم يخطر ببالنا أنه سيغادرنا بهذه السرعة نحو الرفيق الأعلى، ولكن نرضى برضى الله سبحانه وتعالى سائلين أن يجمعنا في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

وإن كنا قد تعلمنا من قبل عندما اخترنا هذا الطريق بأن الصداقة في هذا الطريق ربما تكون لأيام معدودة وقليلة في هذه الدنيا، ففي هذا الطريق -طريق الجهاد والنضال- إما شهادة و إما جرح أو أسر أو غير ذلك من المعاناة، ولكنها والله صداقة لا مثيل لها في أي مكان في العالم، ولا هي تباع أو تشترى، فهي هبة من الله سبحانه وتعالى للمجاهدين في سبيل الله، الذين تركوا نعيم الدنيا وزخارفها الفانية، فمنحهم الله سبحانه وتعالى لقاء ذلك هذه النعمة الكبرى وهذه الصداقة الصادقة المفعمة بالحب والسكينة والطمأنينة.

يقول أحد السلف: «والله إننا لنرى رجالاً نحبهم في الله فنزداد ثباتاً وإيماناً برؤيتهم أياماً»، فالفقيد أيضاً كان على قدم السلف الصالح، وأصحاب العزيمة من الطراز الأول، وكان ذلك عن اختيار لا عن اضطرار.

وكان من أبرز ملامحه ومزاياه، الهدوء الفكري، والاتزان، فكان في كل ما يعتقده ويقرره أو يدافع عنه هادئاً متزن الفكر، مقتصداً عميق النظر، وكان يزينه الوقار والرزانة في جميع تصرفاته ومظاهر نشاطه، خفيف الروح فَكِهاً في مجالسه، واثقاً بنفسه، مستقيم السيرة والخُلق، صاحب مبدأ وإيمان في سياسته وقيادته، عاملاً كثير النشاط والحيوية، دائم الاشتغال بما ينفع أمته ودينه.

وعندما كنتُ معه قُتل في ذلك الحين زعيمٌ كبيرٌ من زعماء العمالة والخباثة، جندله جندي من جنود الإمارة الإسلامية – مجهول عند الناس ولكن نحسبه أن يكون عندالله عالي المقام والشأن-، فقال: الله أكبر.. ما أشجعه من رجل، قد جاد بروحه الطيبة حتى أهلك هذا الخبيث، وقال: كان عمره 35 عاماً وكان رجلاً طيباً، وسواء شهد له الناس أم لم يشهدوا، فالحقيقة أكبر من أن تغطى؛ لأن الشمس لاتغطى بغربال.

تقلد الفقيد مناصب عدة، ففي عهد الإمارة الإسلامية كان سفير الإمارة الإسلامية في إسلام آباد بباكستان. يقول أصحابه الذين رافقوه عندما كان سفير الإمارة الإسلامية كان دائماً في جهد متواصل، لا يعرف التعب والملل، بل كان متدفقاً حيوية ونشاطاً، وأعجب من هذا وذاك أنّ الله سبحانه وتعالى قد رزقه عقلاً وافراً، يسأله الصحفيون والكتّاب الذين كانوا يحضرون في مكتبه للحوار، فيمتعهم بجواباته الشافية ويقنعهم بها.

ثم بعدما انسحبت الإمارة الإسلامية بعد احتلال الصليبيين لبلاد الإسلام، لم يجلس الفقيد في بيته مكتوف اليدين؛ بل ساهم في بناء جيل جديد يعشق الجهاد والتضحية والشهادة لرفع راية الإمارة الإسلامية مرة أخرى في ربوع الأفغان، فبذل الغالي والنفيس للإسهام في هذه الظروف الصعبة حتى عُيّن مرة أخرى نائباً لوزارة التعليم والإرشاد، فلم تكن المسؤولية الجديدة داعي راحة له، بل قلق دائم وعمل متواصل، وتقوية بكل ما أوتي من جهد للمجاهدين.

فيه سكينةٌ منزلة من الله تعالى في جميع الظروف، صابر دائماً، باذلٌ دائماً، يبذل من نفسه ومن ماله، متواضع ليس لديه فروق مصطنعة في معاملة الناس، إذ يملكه الفقير المحدود ويأنس به، ليس به لهفة على شيء مهما كان، فهو دائماً هادىء الأعصاب، وإن كان كثير الآلام الاجتماعية، عميق الأحزان المقدسة في الدين والوطن المحتل.

وهنا أمسك بعنان القلم عن الجري في ميدان القول، فإن الحديث عن الفقيد طويل، وقد خسرناه فما أفدح خسارتنا به نحن معشر المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، وألحقنا به شهداء صالحين. آمين

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وارْحمْهُ، وعافِهِ، واعْفُ عنْهُ، وَأَكرِمْ نزُلَهُ، وَوسِّعْ مُدْخَلَهُ، واغْسِلْهُ بِالماءِ، والثَّلْجِ، والْبرَدِ، ونَقِّه منَ الخَـطَايَا، كما نَقَّيْتَ الثَّوب الأبْيَضَ منَ الدَّنَس، وَأَبْدِلْهُ دارا خيراً مِنْ دَارِه، وَأَهْلاً خَيّراً منْ أهْلِهِ، وزَوْجاً خَيْراً منْ زَوْجِهِ، وأدْخِلْه الجنَّةَ، وَأَعِذْه منْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّار.