أيها الخليفة أنظرني إلى غد!

رسالة العلماء (15) اعداد : بلخي إنّ فيصل التفرقة بين علماء السوء وعلماء الآخرة إخلاص القلب لله عزّ وجلّ، وابتغاء مرضاته، وأن تكون الآخرة نصب عينيه فيما يأتي ويذر، ومنتهى سعيه في علمه وعمله. وقد جاء التهديد المخيف، والوعيد الشديد للعلماء إذا كان سعيهم للدنيا وحطامها، وقصدهم الرياء والسمعة، ومنافسة الخلق على الجاه والمكاسب، وأوهام […]

رسالة العلماء (15) اعداد : بلخي

إنّ فيصل التفرقة بين علماء السوء وعلماء الآخرة إخلاص القلب لله عزّ وجلّ، وابتغاء مرضاته، وأن تكون الآخرة نصب عينيه فيما يأتي ويذر، ومنتهى سعيه في علمه وعمله. وقد جاء التهديد المخيف، والوعيد الشديد للعلماء إذا كان سعيهم للدنيا وحطامها، وقصدهم الرياء والسمعة، ومنافسة الخلق على الجاه والمكاسب، وأوهام المناصب. وكانَ لُقْمانُ يُوصِي ابنَه: “يا بُنَي، جالسِ العلماء، وزاحمهم بركبتيك؛ فإن الله يُحيي القلوبَ بنور الحِكْمة، كما يُحيي الأرضَ الميْتَةَ بوابلِ السماء”.

وفيما يلي قصة سفيان الثوري العالم العامل مع أبي جعفر المنصور حين دعاه ليولّيه القضاء، ولمّا مثُل بين يديه، قال أبو جعفر نريد أن نوليك القضاء في بلدة كذا وكذا، فأبى عليه سفيان، فأصرّ أبو جعفر وكرّرعليه الكلام، وسفيان يأبى عليه.

قال أبو جعفر: إذاً نقتلك.

قال: افعل ماشئت.

قال: ياغلام النطع والسيف.

فاقبلوا بالنطع (وهو جلد يفرش تحت الذي يُقتل حتى لا تتلطخ الأرض بدمه)، ثم اقبلوا بالسيف.

ولما رآى سفيان أن الموت أمامه، وعلم أن الأمر جدّ.

فقال: أيها الخليفة أنظرني إلى غد آتيك بزي القضاة.

فلمّا أظلم الليل، حمل متاعه وركب على بغلة، ولم يكن له زوجة ولا أولاد، وخرج من الكوفة هارباً. ولمّا أصبح أبو جعفر، انتظر أن يقدم إليه أبا عبدالله سفيان الثوري ولم يقدم عليه، ولما أضحى وكاد أن يأتي الزوال، سأل من حوله فقال التمسوا لي سفيان الثوري، فالتمسوة ثم رجعوا إليه وقالوا أنه خالفك وهرب في السَحَر في ظلمة الليل. عندها غضب أبو جعفر وأرسل إلى جميع المماليك أنه من جاءنا بسفيان الثوري حياً أوميتاً فله كذا وكذا.

هرب سفيان الثوري فلم يدرِ أين يذهب، وهمّ أن يذهب إلى اليمن، وفنيت منه النفقة أثناء الطريق، فأجر نفسه عند صاحب بستان في قرية على طريق اليمن، فأخذ يشتغل فية أياماً، وفي يوم من الأيام دعاه صاحب البستان، فقال: من أين أنت يا غلام؟ وهو لا يعلم أن هذا هو سفيان العابد الزاهد عالم المسلمين وأمامهم.

قال: أنا من الكوفة.

قال: رطب الكوفة أطيب، أم الرطب الذي عندنا ؟

قال سفيان: أنا ما ذقت الرطب الذي عندكم.

قال: سبحان الله، الناس جميعاً الأغنياء، والفقراء، بل حتى الحمير والكلاب اليوم تأكل الرطب من كثرته وأنت ما أكلت الرطب!. لِمَ لَمْ تأكل من المزرعة رطباً وأنت تعمل فيها؟

قال: لأنك لم تأذن لي بذلك. فلا أريد أن أُدخل إلى جوفي شئياً من الحرام.

فعجب صاحب البستان من ورعه، وظنّ أنه يتصنّع الورع، فقال: والله لو كنت سفيان الثوري! -وهو لا يعلم أنه سفيان- فسكت سفيان ومضى إلى عمله.

وخرج صاحب البستان إلى صاحبٍ له، فأخبره بخبر سفيان وقال له: عندي غلامٌ يعمل في البستان من شأنه كذا وكذا، يتصنّع الورع، والله لوكان سفيان الثوري!.

فقال ماصفة غلامك هذا؟ فقال: صفته كذا وكذا، فقال: والله هذه صفة سفيان، فتعال نقبض عليه حتى نحوز على جائزة الخليفة، فلما أقبلوا على البستان فإذا سفيان أخذ متاعه وفرّ إلى اليمن.

وصل رحمه الله إلى اليمن ثم اشتغل عند بعض الناس، فما لبثوا أن اتمهوه بالسرقة. فحملوه إلى والي اليمن، فلمّا دخلوا به على الوالي أقعده بين يديه، وإذ هم يصيحون به، فلما نظر إليه الوالي فإذا شيخٌ وقورٌ، عليه سمات أهل الخير والصلاح.

قال: سرقت؟

قال: لا والله، ما سرقت.

قال: هم يقولون أنك سرقت.

قال: تهمة يتهموني بها، فليلتمسوا متاعهم أين يكون.

فأمرهم والي اليمن بالخروج من عنده، قال لهم: حتى أسأله (أي أحقق معه).

ثم قال: ما اسمك؟

قال: أنا اسمي عبدالله.

قال: أقسمت عليك أن تخبرني باسمك، فكلنا عبيدٌ لله.

قال : اسمي سفيان.

قال: سفيان ابن من؟

قال: سفيان ابن عبدالله.

قال: أقسمت عليك أن تخبرني باسمك واسم أبيك وأن تنتسب؟

قال: أنا سفيان ابن سعيد الثوري.

فانتفض الوالى، قال: أنت سفيان الثوري؟

قال: نعم.

قال: أنت بغية أمير المومنين؟

قال: نعم.

قال: أنت الذي فررت من بين يدي أبي جعفر؟. قال: نعم.

قال: أنت الذي أرادك على القضاء فأبيت؟. قال: نعم.

قال: أنت الذي جعل فيك الجائزة؟

قال: نعم

قال: يا أبا عبدالله، أقم كيف شئت، وارحل متى شئت، فوالله لو كنت مختبئاً تحت قدمي ما رفعتها عنك. أقم كيف شئت في اليمن. عندها خرج سفيان ،ولكنه ما طاب له المقام في اليمن.

وذهب إلى مكة، وسمع أبو جعفر المنصور أن سفيان الثوري في مكة، وكان على إقبال وقت الحج، عندها أرسل أبو جعفر الخشّابين، فقال لهم: اقبضوا عليه وانصبوا الخشب وعلقوه عليه عند باب الحرم، حتى آتي أنا فأكون الذي أقتله بنفسي حتى أُذهب مافي قلبي من غيض عليه.

أقبل الخشّابين ودخلوا الحرم وبدؤوا يصيحون: من لنا بسفيان الثوري؟ من لنا بسفيان الثوري؟

فلما دخلوا وعلم بهم سفيان، فإذا هو بين العلماء وقد أحاطوا به يسألونه وينهلون من علمه.

ولما سمع العلماء الخشابين ينادون على سفيان.

فقالوا يا أبا عبدالله، لا تفضحنا فنُقتل معك.

عندها قام سفيان وتقدم حتى وصل عند الكعبة ثم رفع يديه وقال: (اللهم أقسمت عليك ألا يدخلها أبو جعفر)، (أقسمت عليك ألا يدخلها أبو جعفر)، (أقسمت عليك ألا يدخلها أبو جعفر). أي ألا يدخل مكة.

فإذا بهذه الدعوات تقرع أبواب السموات، فينزل ملك الموت من السماء فيقبض روح أبو جعفر وهو على حدود مكة، ويدخل أبو جعفر إلى مكة ميتاً، هامداً، محمولاً على النعش يُصلّى عليه في الحرم!

تلك صور واقعة وأحداث شاخصة، سجلها تاريخ علماء الأمة المجيدة بمداد من نور وإيمان، نور يضيء الطريق المدلهمّ الحالك، وإيمان يملأ القلوب بالخوف الشديد من الله وحده ونيل رضوانه، اتبعها السادة العلماء، سالكين سلوك الغلظة في الجواب على الحكام، وإنذارهم وتوعدهم بصريح العبارة وشدة الكلام، لإيقاظ الغافلين منهم عن ذكر الله، الآمنين من مكره العظيم، ولإفهامهم أن في الدنيا رجالاً لا يخافون بطشهم، ولا يرهبون سلطانهم، وأنهم وجدوا من أجل الإسلام وحده.

فنسألُ اللهَ أنْ يجعلَنا من هؤلاء الذين هم بالأئمة والعلماء مقتدون، وفي دَرْبِهم سالكون، وعنهم ذائدون ومضحُّون؛ إنَّك – يا رب – سميعٌ عليم.